يحاول الوزير جبران باسيل أو من يدور في فلكه أن يشيِّع بأنه يعمل منفرداً على استعادة الشراكة المسيحية-الإسلامية، وانّ جميع القوى الأخرى غير مبالية، ويسرد بعض الوقائع المتصلة بالمرحلة التي أعقبت العام 2005.
لم ينجح «التيار الوطني الحر» قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في تحقيق أي شيء للمسيحيين، وما تحقق فعلياً بدأ مع انتخاب عون حيث استُعيدَ التوازن بين الرئاسات الثلاث، وأقرّ قانون انتخاب تمثيلي أعاد التوازن الميثاقي إلى مجلس النواب، وتشكّلت الحكومة على قاعدة الشراكة والتوازن.
يحاول باسيل او غيره، مباشرة او مداورة، نَسب ما تحقق إلى «التيار الوطني الحر»، الأمر غير الصحيح إطلاقاً، لأنّ ما تحقق على مستوى الشراكة الوطنية مردّه إلى المصالحة بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» وترشيح الدكتور سمير جعجع عون للرئاسة، ولولا وصول عون إلى بعبدا لما تحققت ثلاثيّة التوازن في الرئاسات ومجلسي النواب والوزراء، والدليل أنّ واقع المسيحيين قبل هذا الإنتخاب شيء وبعده شيء مختلف تماماً.
ولولا ترشيح جعجع لعون لما تحقّق هذا التوازن المثلّث والذي فتح الباب أمام توازن رباعي مع إضافة الهيكل الإداري للدولة، ولولا ترشيح جعجع لعون لَما انتخب رئيساً للجمهورية، والدليل أنّ ترشيحه من معراب أدى إلى كسر دينامية الفراغ التي استمرّت لأكثر من سنتين ونصف السنة، واستبدالها بدينامية جديدة أوصَلته إلى القصر الجمهوري.
فلا يفترض إذاً نسيان أصل الحكاية، والخروج من «اتفاق معراب». والتراجع عن التوقيع لا يعني إطلاقاً انّ ما تحقق يعود الفضل فيه إلى طرف واحد، لأنّ الفضل يعود بالتكافل والتضامن إلى المصالحة والترشيح و«القوات» و«التيار الحر» وعون وجعجع معاً.
ومن الأسباب الأساسيّة التي دفعت جعجع إلى ترشيح خصمه التاريخي عون، حرصه على استعادة التوازن داخل السلطة، وهذا ليس تفصيلاً ويدخل ضمن فلسفة «القوات» ونظرتها إلى لبنان كوطن الرسالة والتعايش والتفاعل، وهذه النظرة غير مستجدة على غرار «التيار الحر» الذي كانت طروحاته قبل العام 2005 علمانيّة الطابع، إنما تدخل ضمن عمق نظرة «القوات» إلى التركيبة اللبنانية والميثاق التعايشي الذي من دونه يفقد لبنان رسالته ونموذجيته وأهميته لجهة كونه البلد الأوحد في العالم الذي يتشارَك فيه المسيحيون والمسلمون في السلطة.
وهذه المشاركة يجب ان تكون فعلية لا صوَرية كما كان الحال قبل انتخاب عون رئيساً للجمهورية، ولا يجوز تبسيط هذا الجانب المتصل بالدستور والميثاق والفكرة اللبنانية، والنصوص الدستورية ليست نصوصاً شكلية، بل تعكس واقع الحال الذي جاء «اتفاق الطائف» لتكريسه بتحقيق العدالة والمساواة ونقل السلطة إلى مجلس الوزراء.
وقد حوربَت «القوات اللبنانية» من هذا الفريق بالذات بسبب تبنّيها «اتفاق الطائف» الذي أنهى الحرب وحقق المشاركة، وكل المطالبات بتعديله توقفت مع انتخاب عون رئيساً، وهذا أمر جيِّد والفضل فيه يعود لـ«القوات». وأمّا الخلل في التوازن فلم يكن بسبب نصوص «الطائف»، بل مردّه إلى انقلاب النظام السوري على هذا الاتفاق، والدليل انّ هذا التوازن تحقق لحظة اتفاق «القوات» و«التيار الحر» ودخول عون إلى القصر الجمهوري.
والفارق بين «القوات» والنهج الذي يعتمده باسيل انّ الفريق الأول متأصِّل في هذا التوجه لا طارئ، ولكن مُرحّب بالفريق الثاني بطبيعة الحال تجسيداً للفكرة اللبنانيّة، كما أنّ الفارق الأساس أيضاً يكمن في طريقة تقديم وتحقيق الشراكة التي تتحقق بالتراكم وبالخطوات النوعيّة من قبيل قانون الانتخاب الذي يجب التمسّك به، وليس بالكلام الاستفزازي والطائفي والفوقي الذي إمّا يهدد كل ما أنجز، وإمّا يجر البلد إلى الحرب والخراب. والدليل الاتهامات التي تلاحق باسيل في كل زياراته ولقاءاته بأنه طائفي، وآخرها ما أثير سنيّاً وانعكس سلباً على علاقته برئيس الحكومة وكاد يُدخل البلد في أزمة هو في غنى عنها، وكل ذلك بسبب كلام قيل ولا يجب أن يقال.
فالتركيبة اللبنانية دقيقة جداً، وإذا كان المطلوب استعادة الحقوق المسلوبة بسبب انقلاب النظام السوري على «اتفاق الطائف»، فإنّ المطلوب بالمقدار نفسه عدم الاعتداء على حقوق الآخرين ولا إشعارهم بالاستهداف او بالرغبة التوسعيّة لاعتبارات سلطوية، لأنّ خطورة ممارسة الـ«overdose» انها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان كل شيء، وتضرب النظام السياسي وتنقل البلد إلى مواجهة في غير محلها.
إنّ إدارة التنوّع والعيش المشترك تتطلّب ثلاثيّة ذهبية: الحزم أولاً من أجل تحقيق الشراكة التزاماً بالدستور وروحيته والميثاق الوطني. والحكمة ثانياً في مقاربة مسألة بهذه الدقة والحساسية والأهمية الكيانية. والمرونة ثالثاً، تجنباً للاستفزاز والجشع والجوع العتيق وترييحاً لكل الجماعات والمكونات وعدم إشعارهم بالاستهداف.
فالمطلوب ابتعاد جميع المكونات عن فكرة الهيمنة والاستئثار، والإيمان بالشراكة والمساواة، خصوصاً انّ الاستئثار لا يدوم ويولِّد ردات فِعل انتقامية تضع النظام السياسي في مهبّ الريح، لأنه في الاستئثار والاستئثار المضاد لا تقوم دولة ولا يدوم الاستقرار ولا ينتظم عمل المؤسسات، والأهم لا يرسّخ العيش المشترك.
فما تحقق مع انتخاب عون كان يجب ان يتحقق منذ العام 1990 لو لم يتم الانقلاب على «اتفاق الطائف»، وكان يجب ان يتحقق مع الخروج السوري من لبنان، ولكنه لم يتحقق لا عن طريق 8 آذار ولا عن طريق 14 آذار، إنما تحقق عن طريق المصالحة والتفاهم المشترك بين عون وجعجع. وبالتالي، العبرة الأساسية التي على باسيل أخذها في الاعتبار انه من خلال وحدة الموقف بين «القوات» و«التيار الحر» تحققت الشراكة، وأنه من دون هذه الوحدة قد تكون هذه الشراكة في خطر في ظل غياب ثقافة العيش معاً الحقيقية، كما في ظل السعي المتواصل إلى تخريب العلاقات بين الجماعات قطعاً للطريق أمام قيام الدولة الفعلية.
وما تقدّم لا يعني انّ التقاطع بين «القوات» و«التيار الحر» هو تقاطع مقفل، بل مفتوح على سائر القوى الحزبية والمستقلة داخل البيئة الوطنية المسيحية، ولا يعني أيضاً انّ الهدف من هذا التقاطع تعزيز الدور الوطني المسيحي في مواجهة الدور الوطني المسلم، إنما على العكس تماماً كل الهدف منه تحقيق الشراكة والمساواة وطَي صفحة الخلافات الطائفية والإنصراف نحو بناء دولة القانون والحداثة تمهيداً للظروف التي تسمح باستعادة السيادة الكاملة التي من دونها لا دولة فعلية وليس هناك من استقرار ثابت ولا انتظام دائم ولا تعايش حقيقي.