فيما وزير الخارجية محمد جواد ظريف يسوِّق الوجهَ الديبلوماسيَّ الناعم للقيادة الإيرانية، فإنّ قائدَ «فيلق القدس» في الحرس الثوري قاسم سليماني، قابعٌ خلف الستارة يدير الجبهات الإيرانية في الشرق الأوسط. لكنّ قاسَماً مشترَكاً بين الرجلين هو الصلابة: الأوّل حقَّق الإنجازَ النووي مع الغرب والثاني أنجز استمرارَ الأسد في سوريا.
ليس مناسباً إستقراء التوجُّهات الإيرانية الحالية إزاءَ لبنان بناءً على ما يحمله الضيف الإيراني فقط. فظريف، الذي درَس في الولايات المتحدة، والمعروف بمرونته، جاء يُسوِّق نهج الانفتاح. وطبيعيٌّ أن يُظهِر الوجه الإيراني الجميل، وأن يشجع الحلفاء على استمرار الحوار مع تيار «المستقبل»، حليف المملكة العربية السعودية، أيّاً كانت الظروف.
الإيرانيون يوصون «حزب الله» بأن يبقى متيقِّظاً للحؤول دون وقوع فتنة مذهبية، في موازاة استمراره الطرف الأقوى في لبنان. ولذلك، نجح «الحزب» بمهارة في إنجاز معادلة سحريّة. فليس سهلاً احتفاظ «الحزب» بالسلاح واستمرار انخراطه في الحرب الأهلية السورية، وأن يقيم في الوقت عينه شراكة على طاولتَي الحكومة والحوار مع «المستقبل».
بعض الذين يراهنون على أنّ توقيع الاتفاق على النووي بين إيران والغرب سينعكس اتفاقاً داخلياً في لبنان، إفترضوا أنّ ظريف سيحمل في جعبته توصية لحلفائه بوقف التصعيد والقبول بتسوية يأملون في أن ترى النور خلال أيلول أو تشرين الأول، وتشمل انتخاب رئيس للجمهورية وإخراج المؤسسات من الشلل.
لكنّ ظريف جاء في سياقٍ آخر. إنه السياق الإقليمي العام لا الداخلي الخاص. وهو تحديداً يقوم بتسويق الأفكار الآتية في لبنان وسوريا والخليج العربي، ولاحقاً تركيا:
1- خلق منظومة تَواصُل تضمّ هذه الدول، تنطلق من تحسين الأجواء بين إيران والغرب، بعد الاتفاق النووي. ويرمي المسعى الإيراني إلى محاولة إيجاد تسويات للصراعات الإقليمية، ولا سيما الصراع في سوريا والعراق واليمن، على قاعدة أنّ أهل الشرق الأوسط أدرى بمشكلاتهم والسبل إلى معالجتها.
2- إستنفار دول المنطقة قاطبة، ولا سيما بين المتخاصمين، لمواجهة الخطر المشترَك، أيْ الإرهاب. فالإيرانيون يريدون تثميرَ الحملة الدَولية على «داعش» والجماعات الرديفة، والمرتبطة بـ»القاعدة»، وتحويلها انتصاراً استراتيجياً لهم. ولطالما استثمر نظامُ الأسد صورتَه كمحارب للإرهاب. ولذلك، يسعى ظريف إلى تكريس استمرار الأسد وتعويم رصيد «حزب الله» إقليمياً ودولياً كشريكين في الحرب على الإرهاب.
3- ذكَّر ظريف المسؤولين بأنّ طهران ليست ملتزمة دعم المقاومة فحسب، بل أيضاً الجيش اللبناني. ولم يعُد هناك مجالٌ للتحفُّظ الرسمي اللبناني إزاءَ قبول هذا الدعم، بالمال والسلاح، بعدما جرى رفع العقوبات الدولية عنها.
4- ليس في «أجندة» ظريف أيّ طرح داخلي لبناني. لكنه أوضح للذين التقاهم بأنّ استقرار لبنان خط أحمر بالنسبة إلى طهران، وأبلغ الحلفاء بضرورة تقديم كلّ التسهيلات لمنع وصول لبنان إلى الانفجار.
ولذلك، لا بدَّ من استمرار الحوار بين «حزب الله» و»المستقبل» والشراكة في الحكومة وضمان عمل المؤسسات جميعاً، بما فيها موقع رئاسة الجمهورية. إلّا أنّ إيران تترك لحلفائها البحث عن سبل للتسوية الداخلية، بناءً على معطياتهم وتقديرهم للظروف والمصالح.
إذاً، في الجانب الإجرائي الداخلي، الذي يعني اللبنانيين مباشرة، لم يتدخَّل ظريف، بل ترك الأمر للحلفاء كي يقدِّروا الطريقة المناسبة لإدارة الملف. ولم يكن متوقَعاً من الرجل أن يفعل سوى ذلك. فليست إيران، الساعية إلى توسيع نفوذها الإقليمي بعد الإتفاق النووي، في وارد الضغط على الحلفاء لتقديم التنازلات. وعلى العكس من ذلك، تريد إيران أن يترسَّخ نفوذ هؤلاء الحلفاء، في داخل كلّ دولة من دول الشرق الأوسط.
وأساساً، ليس الديبلوماسي محمد جواد ظريف هو الذي يقيم صلة الوصل الحقيقية بين «حزب الله» والقيادة الإيرانية، بل اللواء سليماني الذي يدير جبهات إيران من الشاطئ اللبناني- السوري للمتوسط، شرقاً إلى سوريا الداخلية فالعراق فاليمن.
وهو الرجل الخلاّق، الحاضر دائماً على جبهات الجيوش الإيرانية، في أيّ منطقة من «الهلال الشيعي». ويرتبط سليماني مباشرة بمرشد الثورة علي خامنئي. وله دورٌ مهم في رسم سياسة إيران الشرق أوسطية.
وهكذا، يتلقّى «الحزب» «الطاقة الكهربائية» الإيرانية عبر الخطين: الخط الإيجابي عبر ظريف، والخط السلبي عبر سليماني. وخيارُ «الحزب» واقعٌ بين الخطّين: فلا التسوية مرغوب فيها حالياً ولا التفجير مسموح به… والقرار في النهاية ستتحكّم به ظروف إيران، لا «ظريفها» وحده!