إذا كانت مبادرة الرئيس سعد الحريري الرئاسية في نهاية العام المنصرم قد نجحت الى حد بعيد في أسر المشهد السياسي وجعلت كل القوى مقسومة حصرا بين معارض لها ومؤيد، فان “المبادرة الرئاسية” المنسوبة حديثا الى رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، وجوهرها قرب تزكيته العماد ميشال عون مرشحه للرئاسة الاولى ، اعادت خلط كل الاوراق واوشكت ان تغطي على المبادرة الحريرية رغم ان الثانية هي في الاصل ردة فعل غاضبة على الاولى.
لم يعد خافيا ان مبادرة جعجع، وان كانت لا تزال في اطار كلام منسوب ولم تبلغ بعد مرتبة المبادرة المحسومة، سرعان ما دفعت كل القوى على ضفتي 8 و14 اذار الى اعتبارها امراً مقضياً وبدأت تنسج المواقف على هذا الاساس الى درجة ان رئيس مجلس النواب نبيه بري سارع اخيرا الى التصريح بأن مبادرة الحريري ما برحت قائمة رغم انه لم يمض سوى ايام قليلة على اعلانه ان المبادرة اياها قد دخلت الثلاجة، في دلالة رمزية على انها ليست حاضرة للاستهلاك والتنفيذ في وقت بدأت تهب عاصفة تناقضات مكتومة داخل قوى 14 آذار، فيما انصرف آخرون الى تقصّي حقيقة موقف جعجع وهل يندرج في خانة المناورة ام في صف استدراج العروض لكي يأتي حين من الدهر ويتخلى الحريري عن مبادرته، ام ان لها اساساً من الحقيقة؟
حيال ذلك ثمة من يصوّب نظره شطر حارة حريك باحثا عن حجم تفاعل “حزب الله” مع مبادرة زعيم “القوات”.
وبحسب معطيات اولية متوافرة فان الحزب لا يتجاهل اطلاقا مبادرة جعجع ولا يعتبرها نكرة رغم انقطاع خطوط التواصل بينه وبين معراب ، ولكنه في الوقت عينه لا يراها محسومة دانية القطوف او انها صارت ثابتا يمكن الرهان عليها.
لا ريب انه بلغت مسامع الحزب موجة الاعجاب بوفائه لحليفه المسيحي، وهي الموجة التي سرت في كل الوسط المسيحي، وبالتحديد الموالي تاريخيا لفريق 14 اذار، في مقابل تخلي الاخرين عن حلفائهم حتى من دون ان يكلفوا انفسهم عناء ابلاغهم باطلاق مبادرة جديدة وهو الخذلان الثالث من نوعه بعد الحكومة وطاولة الحوار.
ولا ريب ايضا ان الحزب يثق بفعل التجارب بالعماد عون، وهو يقيم على ثقة بانه ليس من النمط الذي يدخل في بازارات ويعطي تعهدات والتزامات مسبقة يدرك سلفا مدى حساسيتها او انه يعجز عن الايفاء بها.
الى ذلك يجد الحزب في “الضجة” كلها ، سواء تحولت مبادرة ام بقيت في اطارها الحالي، كسبا لفريقه خصوصا وقد صار الترشيح للرئاسة الاولى لدى الخصوم حكرا على رمزين من رموزه فحسب. كما انها ستزيد المراكمة في الوسط المسيحي على العماد عون وترفع تلقائيا من منسوب حظوظه لبلوغ المنصب، وهو الرهان الذي لم يتزحزح الحزب عنه قيد شعرة ولم تهتز قناعته به، خصوصا ان الحزب منذ البداية كان مع انجاز الاستحقاق وملء الشغور ولكن ليس مع اي استحقاق، لا سيما في مرحلة اشتداد الضغوط عليه تمهيدا لمحاصرته وانزال العقاب به ، وهو ما ابلغه الى حليفه التاريخي النائب سليمان فرنجيه يوم زار السيد حسن نصرالله حاملا معه مبادرة الحريري الرئاسية.
وفي الوقت عينه فان الحزب على بيّنة من حجم الارباك الساري لدى الفريق الاخر لحظة ارتفعت من معراب اشارات قرب تأييد جعجع لترشيح عون للرئاسة الاولى ردا على خطوة الحريري . والحزب لا يخفي ان تصرف جعجع الاخير ما كان الا لانه يشعر بانه ليس الرقم الصعب والاساس عند حليفه المرجعي كما هو عون عند الحزب، وانه (اي جعجع) عندما أشهر هذا الخيار فانه يعني انه ولج فعلا عملية موازنة بين الخسائر التي سيمنى بها نتيجة هذا التحول على مستوى الخيار الاقليمي وبين الارباح والبدائل الاستراتيجية التي يمكن ان يجنيها لاحقا بصرف النظر عن النهايات.
وتعي الدوائر المعنية بالملف في الحزب ان على جعجع ألّا يطيل عملية التلويح بالخيار الجديد الذي يقف على مشارفه، اذ عليه ان يحسم سريعا، فإما يمضي قدما او ينكفىء الى المربع الاول لان عامل الوقت لا يسير بالضرورة لمصلحته، فضلا عن ان تراجعه، إن حصل، سيترك انعكاسات سلبية على قاعدته التي باتت اكثر انحيازا لهذا الخيار الجديد واكثر نفورا من الخيار القديم.
واذا كان صحيحا ان الحزب لا يشترك مباشرة في مسار مخاض تحوّل جعجع وانه يرصد وينتظر من خلال حليفه عون وفريقه السياسي المولج بالمتابعة، الا انه يعتبر نفسه معنيا مباشرة بالنتائج، سلبية كانت ام ايجابية، وهو من اجل ذلك مضطر الى التقصي والانتظار وتاليا القراءة والتحليل.