العهد؛ لهذه الكلمة قوة ونفوذ لا يمكن أن يدركهما سوى قلة قليلة من الناس. منذ عام تقريباً، كان يمكن سماع المسؤولين والناشطين في التيار الوطني الحر يقولون إن كل ما خسروه «بالمفرّق» سيفوزون به مجدداً «بالجملة» خلال سنوات العهد، من دون أن يفهم أحد معنى ذلك.
وفعلياً، بعد مرور عام على وجود الرئيس ميشال عون في بعبدا، العهد يعني: مؤسسات عامة، أجهزة أمنية، وسائل إعلام، البطريركية المارونية ورهبانياتها، مدارس رسمية وجامعات، مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، قيادة الجيش، الكازينو والمصرف المركزي، تعيينات قضائية ودبلوماسية، رؤساء ومجالس بلدية، وغيرها الكثير بتصرّف رئيس الجمهورية، وخصوصاً إذا كان الرئيس قوياً كميشال عون.
في الفترة التي أعقبت عودة عون الى لبنان وصولاً الى منتصف عام 2016، شارك في الحكومات المتعاقبة وكانت له حصة كبيرة في المجلس النيابي. إلا أن ذلك لم يترجم نفوذاً وخرقاً جدياً في الشبكة العنكبوتية القائمة في لبنان منذ ما بعد الطائف، والتي تتمثل برئيس مجلس النواب نبيه بري وبرئيس الحكومة السابق رفيق الحريري (واليوم سعد الحريري) ورئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط. فالتيار الوطني الحر، ورغم تمثله بعشرة وزراء وأكثر من 25 نائباً، لم يكن باستطاعته تغيير «قشة» في مختلف إدارات الدولة أو في الوزارة التي يشغلها أحد وزرائه أو حتى في القرارات التنفيذية الصادرة عن الحكومة والمجلس النيابي على حدّ سواء. فعلياً، لم يتم التعامل مع التيار كشريك أساسي في الحكم. وباختصار كان التيار خارج المعادلة.
رغم تمثله بعشرة وزراء وأكثر
من 25 نائباً، بقي التيار خارج السلطة حتى انتخاب عون
اليوم، بات يكفي أن يتصل مسؤول التيار في أي قضاء، لا الوزير ولا النائب، بمدير الجمارك على سبيل المثال أو أي مدير في أي وزارة ليبلغه أنه يريد خدمة لأحدهم حتى يكون الأخير جاهزاً لتلبية الطلب. سابقاً أيضاً لم يكن في وسع وزير الاتصالات الاطلاع على ما يجري في وزارته الخاصة نتيجة احتماء المدير العام بفريقه السياسي النافذ في البلد؛ ولم يكن في وسع رئيس التيار جبران باسيل، عندما كان وزيراً للطاقة، أن يؤثر في قرار مدير مصلحة المياه المستقوي بزعيمه السياسي. المدير نفسه اليوم يلبّي طلب أيّ مسؤول عوني. الأمر نفسه ينسحب على التعيينات القضائية والأمنية والدبلوماسية والادارية التي كانت تمر من دون أن يحسب أحد حساب التيار الوطني الحر. التيار دخل معادلة الحكم من بوابة القصر الرئاسي، وتبدّلت موازين القوى لمصلحته. هكذا باتت كل القرارات التنفيذية تسلك طريقها عبره ولا تتم إلا برضاه، وبات شريكاً في أي ملف يفتح على مستوى الدولة.
على المقلب البلدي، لطالما شكلت المجالس البلدية ورؤساؤها منذ عام 2005 القوة الرئيسية المناوئة للتيار. اعتاد هؤلاء التظلل برئيس الجمهورية أيّاً كان، فكانوا الجزء الاساسي من قوى 14 آذار في جبل لبنان، وشكلوا في كل انتخابات نيابية أو بلدية خصم العونيين اللدود. لكن يصعب غداة تشرين الثاني 2016 الوقوع على رئيس بلدية واحد في جبل لبنان يستعدي العهد وحزبه. واللافت أن الرؤساء الأكثر تزمّتاً في ما خصّ الانفتاح على التيار الوطني الحر، إن في بعبدا أو في المتن الشمالي أو في بيروت، أصبحوا حلفاء العونيين وشركاءهم في المجالس البلدية، ويحجّون بانتظام الى بيوت التيار البرتقالية، لا بل يعمد بعض الريّاس في عكار وجوارها الى تقديم انتساباتهم الى الحزب العوني، ويضع البعض الآخر نفسه وبلدته في تصرّف باسيل والنواب.
باختصار، هناك من يعبّر عن كل ما سبق بعبارة واحدة: «صارت إيد التيار طايلة ومكترة». وذلك لا يعود فقط الى أن عون أصبح رئيساً والتيار الوطني الحر هو حزبه الخاص، فكثير من الرؤساء الذين توالوا على بعبدا خرجوا وأحزابهم منها من دون أن يتمكنوا من إضاءة باحة القصر لا باحات منازلهم. ولكن تتبدل الأمور جذرياً عندما يكون ميشال عون هو الرئيس لا ميشال سليمان ولا غيره ممن لم ينجزوا شيئاً ولا أوْلَتهم القوى النافذة أي اعتبار، بل آثرت استعمالهم لمآرب سياسية هنا وهناك، إذ يصعب تجاوز عون أو محاولة الأكل من حصته أو مجرد التفكير في مدّ اليد الى صحنه. الرئيس اليوم هو المعادلة بحدّ ذاتها، ويستمد قوته الاساسية من أنه حاجة ملحّة للجميع: لتيار المستقبل أو لحزب الله أو للقوات أو للاشتراكي وغيرهم. والأهم في ذلك كله أن رئيس الحكومة سعد الحريري حليفه، وحتى الساعة ينسّقان معاً في مختلف الملفات ويتوافقان عليها؛ وهو ما يجعل طريق الدولة سالكة وخط التيار الوطني الحر مفتوحاً تماماً.
ولكن رغم كل ما سبق وتأثير الرئاسة بشكل مباشر على الملفات الملحّة والاستحقاقات الاساسية، هناك من يحذر التيار من المبالغة في التعويل على فائض القوة؛ ففي انتخابات المتن النيابية الفرعية في المتن الشمالي (2002)، سُخّرت كل قدرات العهد للفوز بالمعركة، ومع ذلك خسر رئيس الجمهورية ومن يمثله في المعركة وفازت المعارضة المسيحية.