قبل زيارة وفد «حزب الله» إلى بكركي كان موقفه من المبادرة الرئاسية محسوماً مبدئياً، إنّما بشكل غير رسمي، ما أبقى الأمور مفتوحة على التأويلات، أمّا وبعد أن حسَم هذا الموقف رسمياً، يمكن القول إنّ المبادرة انتقلت من الموت السريري إلى الموت الفعلي.
إختارَ «حزب الله» منبرَ بكركي ليحسمَ موقفَه الرئاسي، وهذا الاختيار له علاقة بطبيعة الاستحقاق لجهة كونه مسيحياً بامتياز، علماً أنّ تساؤلات عدة كانت استغرَبت عدمَ تطرّق السيّد حسن نصرالله في إطلالاته الأخيرة إلى هذه المبادرة، فتبيّنَ أنّ المقصود أن يخرج موقف الحزب من بكركي أوّلاً، في رسالة رمزية بالشكل والمضمون.
وما أكّده رئيس المجلس السياسي في الحزب السيّد إبراهيم أمين السيّد عَلناً، كانت ردّدَته أوساط الحزب نفسه ضمناً، ولكنّ وقعَ الكلام الرسمي يختلف عن كلام الأوساط والمحلّلين والمقرّبين، وبالتالي ما بَعد هذا الكلام ليس كما قبله.
وقد حسَم السيّد باسم الحزب التزامَه بتأييد عون للرئاسة، ورفضَه المطلق أن يؤدّي دورَ إقناعه بالتنحّي عن هذه الرئاسة، واضعاً الكرة في ملعب عون الذي وحدَه يقرّر الاستمرار أو التراجع. الأمرُ الذي يَعني بوضوح العودة إلى المربّع السابق: عون أو الفراغ، وليس فرنجية أو الفراغ.
ومعلوم أنّ مِن ضمن حيثيات ما سُمّي بالمبادرة أن يتولّى الرئيس الحريري تسويقَها داخل 14 آذار، مقابل أن يتولّى فرنجية تسويقَها داخل 8 آذار، وبما أنّ «حزب الله» أعلنَ رسمياً موقفَه من خلال التمسّك بعون، وطالما إنّ الأخير ليس في وارد التراجع عن ترشيحه، فيعني أنّ الحزب أنهى المبادرة، كما أنّ فرنجية لا يمكن أن يستمرّ برتشيحه في ظلّ موقف الحزب، والرهان على توزيع أدوار ولعِب تحت الطاولة وما شابَه، ليس في محلّه ومجرّدَ أوهام.
وبمعزل عن الاعتبارات التي دفعَت الحزب لاتّخاذ هذا الموقف، أكانت من طبيعة إقليمية متصلة بالتطوّرات السورية، أم من طبيعة محلّية مرتبطة بالتحالف مع عون، إلّا أنّ النتيجة واحدة وهي استمرار الفراغ الرئاسي إلى اللحظة التي تنضج فيها ظروف هذا الملف محلّياً وإقليمياً.
وبعد موقف الحزب لم يعُد مهمّاً الكلام عن موقف 14 آذار وخلافاتها حول المبادرة، لأنّ المربّع التعطيلي الأوّل لها هو الحزب الذي في حالِ موافقتِه كانت ستَنتقل الأنظار إلى المربّع التعطيلي لها من داخل 14 آذار، ولكنْ في ظلّ موقفه الأخير لم تعُد الكرة في ملعب هذا الفريق السياسي، ولم يعُد أيضاً مهمّاً الحديث عن إعادة تزخيم المبادرة بعد الأعياد، لأنّه في حال عدم معالجة موقف الحزب، يكون عبَثاً الكلام عن تزخيم.
وبخِلاف ما يتردّد أنّ المبادرة ستبقى على قيد الحياة بمعزل عن الاسم، لأنّ الملف الرئاسي الذي تمّ تحريكه مِن الصعوبه بمكان طيُّه بَعد الغطاء الدولي الذي ناله، فإنّ المبادرة انتهَت برُمَّتها، والمجتمع الدولي الذي لم يضغَط من البداية لإتمام هذا الاستحقاق، لن يضغط اليوم، كونه في موقع المبارك لا اللاعب.
وانتهاءُ المبادرة يَطوي معه مبدئياً ترشيحَ «القوات» لعون، هذا الترشيح الذي صَعد إلى الواجهة كخَيار الاضطرار والضرورة في مواجهة ترشيح فرنجية على قاعدة أفضل التفضيل، ولكنْ مع العودة إلى مربّع عون أو الفراغ تعود «القوات» إلى معادلتها السابقة والقائلة: بقدرِ ما يقترب عون من طروحاتها السياسية، تقترب هي من ترشيحه رئاسياً.
وبهذا المعنى، انتهاءُ المبادرة يطوي ترشيحَي عون وفرنجية معاً، ولا يمكن تعويمُهما مستقبلاً إلّا في حالة واحدة وهي انتصار مشروع الممانعة في سوريا والمنطقة واستطراداً لبنان، الأمر غير الممكن في ظلّ موازين القوى المتعادلة، ما يَعني العودة إلى المرشّحين التوافقيين الذين عبرَهم فقط يُملأ الفراغ على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
وموقف الحزب أظهرَ صحّة ما كان ذهب إليه الدكتور جعجع من زاويتين:
الزاوية الأولى أنّ المسؤول الأوّل عن الفراغ الرئاسي هو «حزب الله» لا عون.
والزاوية الثانية والأهمّ أنّ إصرارَ الرئيس الحريري في جلساته واتّصالاته مع جعجع على ضرورة تبَنّي 14 آذار لمرشّح وسَطي لم يكن في محلّه، لأنّ الحزب الذي لم يتبَنَّ ترشيح فرنجية لم يكن في وارد تبنّي أيّ مرشح وسَطي، وبالتالي أثبتَ جعجع بأنّه كان على حقّ، كون تورّطِ 14 آذار بالتسمية كان سيؤدّي تلقائياً إلى حرقِ الاسم، كما إضعاف موقف 14، لأنّ العماد عون كان سيَستخدم هذا الترشيح لاستهداف 14 آذار من باب أنّها تُفرِّط بالبُعد التمثيلي، ويَعمد إلى تعويم نفسه مسيحياً، فيما المطلوب انتزاع موافقة 8 آذار وعون تحديداً على التراجع عن ترشيحه والإقرار المبدئي بالذهاب إلى مرشّح وسطي. وأي خطوة قبل ذلك تُعتبر دعسة ناقصة.
وفي السياق نفسِه من الخطيئة تحميلُ الأقطاب الأربعة مجتمعين مسؤولية الفراغ الرئاسي، هذا الفراغ الذي يتحمّله حصراً الثنائي «حزب الله»-عون، وإنهاءُ الفراغ لا يكون عن طريق التنازل والتراجع أمام الطرَف الذي يمارس الابتزاز السياسي، خصوصاً في ظلّ خطورة تسليف محوَر الممانعة رئيساً لمدّة ستّ سنوات في لبنان استباقاً للتسويات المفترضة، مع كلّ ما يمكن أن يعكس هذا الأمرُ من سلبيات على مستقبل التسوية اللبنانية.
ويبقى أنّ «حزب الله» أراد، على طريقته، إنهاءَ المبادرة الرئاسية في نهاية العام 2015، كي لا تستمرّ إلى العام المقبل، وهذا ليس وليدَ الصدفة، إنّما عن سابق تصَوّر وتصميم، وذلك بغية التفرّغ لمبادرات وملفات أخرى تظهر تباعاً، فيما يبدو أنّ تفعيل الحكومة سيشكّل تعويضاً عن الفراغ الرئاسي، الأمر الذي يشكّل هذه المرّة مصلحة عونية لطيّ المبادرة الرئاسية نهائياً من خلال الالتفاف على المطالبات الدولية بإنهاء الفراغ عبر التفعيل الحكومي، وإبقاء حظوظه معلّقة على مسار التطوّرات الإقليمية.