الحزب يلعب على حافة الهاوية.. والمشكلة لمن القرار في إطلاق صفارة التسوية؟
مخاوف من دخول لبنان فصلاً جديداً من عودة العبث الأمني!
«حزب الله» يرى أن مبادرة ترشيح فرنجية كانت متعثرة قبل اشتداد الأزمة بين الرياض وطهران
ارتفع منسوب القلق على لبنان من تداعيات الاشتباك السعودي – الإيراني في ظل انسداد الأفق أمام إمكانية الولوج إلى تسوية سياسية داخلية تساهم في توفير مظلة سياسية وأمنية واقتصادية للبلاد، تجنّبه الانضمام بقوة إلى ساحات الصراع المفتوحة من حوله على خلفية مذهبية. القلق كان ينتاب، في الأصل، كثيراً من السياسيين الذين ذهبوا إلى تبني ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية في محاولة لتفادي انعكاسات المواجهات في المنطقة، الآخذة إلى مزيد من التأزم والتعقيد والتصعيد.
اعتقد زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري ومعه النائب وليد جنبلاط - «بيضة القبّان» في الاستحقاقات المصيرية - وبمباركة رئيس مجلس النواب نبيه بري أحد مكوّني «الثنائية الشيعية»، أن طرح اسم فرنجية، المنتمي إلى قوى 8 آذار، بما يمثله من تنازل عن المطالبة برئيس وسطي، من شأنه أن يحرّك الملف الرئاسي لما يحمله من تنازل سياسي من قبل الخصم وفرصة ذهبية لإيصال رئيس مرتبط عضوياً بـ «محور الممانعة»، فيما منطق التسويات يستبعد عامة المرشحين المحسوبين على القوى المتصارعة لمصلحة مرشحين توافقيين، وهي ليست السمة التي تطبع موقع فرنجية. إلا أن الحريري تجرّع «كأس السم»، واندفع في طرحه مع توالي إشارات إقليمية عن تفاهم غير مباشر إيراني – سعودي على اسم فرنجية وتأييد فرنسي – أميركي، عله يُحدث ثغرة في الجدار الرئاسي يؤول إلى عودة الانتظام لعمل المؤسسات الدستورية وتمتين الجبهة الداخلية في وجه الانزلاق المذهبي الذي لامسه لبنان أكثر من مرّة منذ اندلاع النزاع في سوريا والتحاق «حزب الله» بركب النظام في محاربته المعارضة السورية.
لكن التضحيات الحريرية» لم تفضِ إلى تبني «حزب الله» مرشحاً من عنده وإيصاله إلى سدّة الرئاسة، رغم سعي فرنجية لدى حلفائه للاستفادة من عامل الوقت الذي قد يلعب ضده إذا طرأت متغيّرات إقليمية، وهو ما حصل مع وصول العلاقات السعودية – الإيرانية إلى أعلى مستوى من التصعيد على خلفية إعدام المملكة للشيخ نمر النمر، ضمن مجموعة قوامها 47 شخصاً مدانين بأعمال إرهابية أو بالتحريض عليها، وإقدام متظاهرين إيرانيين على إحراق السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد.
ورغم أن احتمالات التسوية تراجعت اليوم إلى أدنى مستوياتها، غير أن مقرّبين من أجواء «الحزب» يرون أن تلك الاحتمالات كانت ضئيلة حتى ما قبل انفجار الأزمة بين إيران والسعودية، لجملة أسباب جوهرية، أولها أن تظهير المبادرة، بالشكل الذي حصل، أعطى السعودية دوراً متقدماً كصانعة للحل، بما يقطع الطريق أمام إيران الجاهدة، منذ التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني، لتقديم نفسها كقوة «صاحبة حلّ وربط» في أزمات المنطقة والقادرة على لعب الدور البنّاء، وثانيها أن طريق التسوية داخلياً لا بد من أن تمرّ في «حارة حريك»، وأن يكون «الحزب» هو عرّابها، ولا بد من أن تؤدي إلى إرساء أسس جديدة من شأنها، في نهاية الأمر، أن تُنتج سلطة موالية له يتحكّم، من خلالها، بمفاصل الدولة، وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون إدخال تعديلات في تركيبة السلطة التنفيذية لتثبيت مبدأ «الثلث المعطّل»، ومن دون قانون انتخابيّ يؤمّن الغالبية لـ «الحزب» وحلفائه، فضلاً عن ضمانات في ما خص مواقع قيادية في الدولة وفي مقدمها قيادة الجيش والمؤسسات الأمنية. وبالتالي، فإن اعتقاد الحريري بأن توصّله إلى تفاهمات مع مرشح رئاسي - وإنْ كان حليفاً للحزب - كفيل بتعبيد الطريق لإنجاز الاستحقاقات، هو اعتقاد لم يكن في محلّه.
اليوم بات الكلام عن المبادرة في مهبّ الريح، لكن ثمة مخاوف حقيقية لدى مطّلعين سياسيين وأمنيين من أن يدفع انسداد الأفق السياسي بلبنان إلى فصل جديد من عودة العبث الأمني، سواء عبر الاغتيالات السياسية أو اشتعال أحداث أمنية في مناطق مرشحة لذلك، سواء في عرسال ومحيطها أو في مخيّم «عين الحلوة»، لن تفضي إلا إلى مزيد من دخول البلاد في دوامة العنف من جديد.
غير أن استهداف رئيس كتلة «حزب الله» النيابية محمد رعد مباشرة للحريري رسَمَ مشهداً سوداوياً. فرغم أن كلام رعد جاء في حمى التوتر السعودي – الإيراني، وعلى وقع هجوم الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله ضد المملكة وردّ الحريري عليه، فإنه، بما حمله من تهديد مبطّن للحريري، رفع من سقف المواجهة الداخلية وسط مخاوف من أنْ يؤدي هذا التصعيد إلى انكشاف الساحة اللبنانية أمنياً. فالذهاب إلى هذا المدى من «المكابرة والعنجهية والتهديد» لزعيم السنّة الأوّل في لبنان يدل، حسب رأي سياسي مناهض، على أن «حزب الله» قد خرج من طور التعقل إلى اللعب على حافة الهاوية، ذلك أن كلام رعد - الذي أُعدّ بعناية في دوائر الحزب، وأُريدَ له أن يصدر بهذا السقف العالي والمضمون - لا يهدف إلى توجيه رسالة للحريري والسعودية مفادها أن الأمرَ في لبنان هو للحزب وإيران فحسب، بل إلى الإيحاء بقدرة الحزب على شطب الزعيم السنيّ الأوّل في لبنان من المعادلة، أو في أحسن الأحوال إخضاعه. ومَكمَن الخطورة يَـتجلّى في أن هذا الإيحاء لا يمكن فهمه إلا بوصفه رسائل بأن الحزب لن يتوانى عن العودة إلى توجيه السلاح إلى الداخل لفرض إرادته المطلقة على لبنان من منطلق ربطه بمشروع إيران الإقليمي، وهو بذلك يستدرج «داعش» بشكل مباشر إلى الساحة اللبنانية، إذ أن التهديد بإقصاء رمز الاعتدال السنيّ هو دعوة صريحة لقوى التطرّف للدخول إلى هذه الساحة، سواء أكان ذلك كردّة فعل على «الاستعلاء الحاصل» أم نتيجة عملية عسكرية شبيهة بـ «7 أيار 2008».
فالحزب يُدرك أنه لم يعد في زمن يستطيع فيه أن يكرّر «7 أيار عسكرية» من دون تداعيات أمنية عليه وعلى بيئته الحاضنة. فالمسألة ليست اليوم مرتبطة بحجم ترسانة الحزب العسكرية وعدم قدرة الآخرين على اللحاق به أو مجاراته، ما يجعله قادر على فرض شروطه، بل إنها تتعلق بشبانٍ حوّلوا أجسادهم إلى قنابل موقوتة بأحزمتهم الناسفة، ففرضوا معادلة «توازن الرعب» وإنْ وُسموا بالإرهاب. فتحت هذا التوصيف، تتجند الأجهزة الأمنية كافة، على اختلاف أنواعها في البلاد، لملاحقتهم وتحقق نجاحات موصوفة، في ظل المظلة السياسية التي تحظى بها تلك الأجهزة، وفي مقدمها المظلة السنّية، وفي ظل الغطاء الدولي للبنان لتحييده عن الصراعات في المنطقة، والذي من خلاله تضاعف التنسيق الاستخباراتي الإقليمي والدولي مع لبنان في مواجهة خلايا التنظيمات المتطرفة النائمة فيه، لكن من شأن أي «دعسة ناقصة على فالق الاحتقان المذهبي» أن تُطيح بكل الإنجازات التي تحققت، وتُشرّع الأبواب أمام مصير قاتم!