الأعداد تزداد والمآسي على أشكالها تتظهر، والحرب السورية لن تتوقف. إنها الهزيمة، من جديد. بذهول ودهشة ينظر اللبنانيون الى شباب بأنصاف أجساد، أضحوا مبتوري الأيدي والأرجل، فاقدي القدرة على فعل أي شيء، عاجزين عن المشي أو الركض أو الكتابة أو حتى الأكل بمفردهم. الصور القليلة حتى اليوم كافية ليتذكر اللبنانيون أيام الحرب اللبنانية والحروب التي تتالت عليهم منذ ذلك الحين، ليكرهوا أكثر كل كوارثها الإنسانية على وجه الخصوص. وإذا عادت وحصلت، لاتخذوا قرار ترك لبنان والهجرة هرباً من انخراط أبنائهم في القتال على الجبهات.
هل هي مشاهد طبيعية تلك التي أبتليوا، وبلوا اللبنانيين بها؟ هل هو اقتناع حقيقي من قبل شباب «حزب الله» بالتضحية بحياتهم ومستقبلهم، وهل هو جهل تام لحقوقهم كأفراد خلقوا أحراراً لا عبيداً مأمورين، أم أنها ذهنية راسخة بأنهم ضحايا أبديون وعليهم التضحية بأنفسهم خدمة لمشروع وجودي لا حياة لهم خارجه؟ الحقيقة المروعة هي أن «حزب الله» يصور مشروعه وعملية تحقيقه واستمراره أغلى بكثير من حياة شبابه ومستقبلهم، بل وأكثر، فهو يجزم بأن لا حياة لشيعة لبنان خارج هذا الهامش، مقحماً وجودهم بتلازم مساري مطبق مع هذه الأيديولوجيا.
ما يراه الحزب بديهياً، ويتجاهله قادته وإعلامه ومن قبلهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، استفز المجتمع اللبناني، الشبابي خصوصاً. نشروا الصور وانتقدوها بمضمون جدي. صورة شابين مبتوري الأطراف واحد على كرسيه والثاني يعانقه من دون يدين كانتا كافيتين بالنسبة لهم لكشف ما يحصل. هم الوحيدون القادرون على التعبير بوضوح وواقعية، من الفئات العمرية نفسها شاءت ظروف حياتهم أن يكونوا مختلفين عن أولئك الذين في الصورة. غياب التوازن والعدالة الاجتماعية، والفرق بين المجتمع والبيئة الداعمة للطموح الفردي والتطور والتطلع الى المستقبل والتقدم والإنجاز والتحفيز وتحقيق الأحلام والدراسة والعمل وتحقيق الذات، وبين القمع والكبت وغسل الأدمغة والقبض على حياة الفرد وتطويعه وقتل طموحاته والاستئثار بقدراته وتدجينها أو تسييرها أو حتى إلغائها خدمة لمشروعه.
لا تأكيدات حول أعداد المعوقين اللبنانيين جراء مشاركتهم في الحرب السورية، لكن لا يهم. فمهما كبر أو صغر العدد، يشهد للحزب أنه عرف جيداً كيف يؤسس من جديد لـ«جيل حرب» أقحم فيه جزءاً من الشباب اللبناني، وهنا تحديداً «قوته»، عناصر «مؤدلجة« يسوّق لها على أنها تذهب لتقاتل وتقتل السوريين وتحتل أرضهم، وبغض النظر عن النتائج الإنسانية والاجتماعية المرعبة التي تخلفها وراءها هناك، وحقيقة إن هذه العناصر كانت مجرد وقود لمحرقة المحور الإيراني. فمنذ اللحظة الأولى، أو منذ عودة أوائل عناصر الحزب الى لبنان بتشوهاتهم واعاقاتهم والسعي الى تأمين كافة العناية الطبية اللازمة لهم في مستشفيات الضاحية الجنوبية، أدركت قيادة الحزب ومعها إيران أن الحرب الدائرة ستحول هذه المشاهد والمآسي الى أمور عادية، وهو ما حصل، وهو على الأرجح ما دفع شاباً فقد رجليه الاثنتين الى المشاركة في أحد المهرجانات الشعبية لـ»حزب الله« رافعاً على رأسه شارة «لبيك نصرالله». صورة الشاب تدفع فعلاً الى الشفقة، تبدو «طريفة» بالمعنى التراجيدي للكلمة، يحارب في البداية بأمر من نصرالله، ثم يفقد رجليه لهذا السبب ويجبر على إكمال حياته بأكملها جالساً على كرسي متحرك، ثم يعود ويعلن مبايعته.. على الكرسي.
صحيح أن سوريا تحولت الى ملعب «حزب الله» القتالي الرئيسي، وتحول قتاله هناك الى قضية وجود من غير المسموح التراجع عنها قبل إرساء وتثبيت جميع أهدافه التي على أساسها انخرط فيها، ولهذه الغاية أرسل شبابه الى الموت، وضحى بكل مقدراته البشرية الأساسية والاحتياطية. أما مجتمع الحزب في لبنان فما زال يتلقى.. يتلقى القتلى، يتلقى المعوقين والجرحى والحالات الحرجة بين الحياة والموت، يتلقى الأرامل والأيتام، يتلقى القرارات العقابية العربية والدولية السياسية منها والاقتصادية التي عادت لتصنف «حزب الله« بالإرهابي وتطوقه بقوانين مالية ومصرفية خطيرة، مجتمع يتلقى… يتعب… وبات على وشك الانهيار. واليوم يحلو للبعض أن يقول ورغم كل الرفض لتدخل الحزب في سوريا، هؤلاء الشباب هم الضحية الكبرى، هم من أبكوا الكثيرين، بثلاث صور فقط انتشرت على مواقع التواصل الاجماعي، أدخلوا اللبنانيين معهم الى جحيم الدماء، والأشلاء، والأمهات النائحات، والطموحات والحيوية التي انتهت في آخر المشوار.. على كرسي متحرك.