«لم يعرفوني في الظلال التي تمتصّ لوني في جواز السفر وكان جرحي عندهم معرضًا لسائح يعشق جمع الصور لم يعرفوني… آه … لا تتركي كفي بلا شمس لأن الشجر يعرفني… تعرفني كل أغاني المطر لا تتركيني شاحبًا كالاقمر! عار من الإسم، من الانتماء في تربة ربيتها باليدين أيوب صاح اليوم ملء السماء… لا تجعلوني عبرة مرتين!» (محمود درويش)
عندما نكتب شجنًا وعتبًا لا يعني أننا يئسنا! فاليأس يحل حتى أعظم الأمور تعقيدًا وخطورة! اليأس يترك الشأن الميؤوس منه في ثنايا ندبة جرح قديم، نذكره فقط عندما نلمسه في لحظة وجدانية، أو عندما ننظر عميقًا في مرآتنا الذاتية نراجع تفاصيلها. أو حتى، في أسوأ الأمور، بالانتحار! فيأتي الموت كحل نهائي، تنعدم فيه كل العلاقات والاحتمالات، فينزاح الألم اليومي من انتظار الفرج المأمول عن الصدور. ألم الأمل يأتي في الانتظار على طريقة «صموئيل بيكيت» «في انتظار غودو»، في مسرحيته الوجودية الفلسفية العظيمة. الأمل والألم رفيقان لا ينفصلان، وأعظم الآلام تأتي من أمل لا يوجد سبيل إلى تحققه، أو عندما تتضاءل احتمالات البشارة بقرب تحقق الأمل. إشكال انتظارات الأمل مع آلامه أنه يمنع أيضًا المتأمل المتألم من البحث عن خيارات أخرى غير المأمول به، أي من خلال الانفتاح على الاحتمالات خارج ما هو بديهي في انتظار المأمول.
أعتذر مجدداً من القراء النادرين الذين أتعبتهم من كثر الشجن المشحون فيما كتبته أخيراً، فعتبي وشجني يعني أنه لم ينقذني اليأس بعد من ألم الانتظار. لكنني، رغم ذلك، أبحث عن احتمالات أخرى لاستكشاف وسائل للأمل لكي يصل من أبواب غير التي ننتظر على أعتابها مبتهلين مستعطفين. فندائي لإخوة يوسف لكي لا ينسوه في البئر لم يكن استجداءً للمعونة ولا للتذكير بنخوة الإخوة، فالموضوع هذا بالذات ميؤوس منه، وقد تم نسيانه في ثنايا الندوب التي تركتها على جسم يوسف «سهام تكسرت على السهام»، من عدو وصديق وأخ، ظَننا يومًا أنه الأمل المنشود.
نعم، وبلا مواربة أو تضليل، لبنان هو يوسف، وليس يوسف شخصًا في حد ذاته، ومن يتجاهل أو يستنكر ذلك هو إمّا جاهل أو ضال أو جاحد. يوسف كان، بحلمه أو جنونه، بعزه أو فاقته، الواجهة الوحيدة التي بقيت مكسر عصي العرب، عنّا وعن الجميع. لا شك هنا أن علينا الاعتراف بأننا تاجرنا بذلك في كل اتجاه، ولا شك في أن بعضنا استثمر ذلك في لعبة السلطة والمال… لكن كل ذلك لا يعني أن يوسف مسؤول عما يحدث له، فلا هو اختار مسقط رأسه، ولا تاريخ ولادته، ولا من هم إخوته ولا من هم أعداؤه. فإن كان الإخوة يلومونه اليوم على واقعه، فجزء كبير من هذا الواقع تسببوا هم به، عندما تحول البئر الذي أُسقط فيه لبنان مكبًا لنفايات الإخوة والأعداء على حد سواء، حتى «بلغ السيل الزبى» وتحقق الاختناق الحتمي. من هنا، فإنّ تَرك لبنان ليسقط في النسيان ويدخل في التفكك والتحلل الحتميين في المياه الآسنة يعني أيضًا أن لعنة سقوطه لن تعفي المتجاهلين من تبعات السقوط، لا بل قد تشجع الذئب الذي نهش العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى، على البحث عن فريسة جديدة.
لكن، ما دخل جواز السفر بكل ذلك؟ الواقع هو أنّ جواز السفر اليوم هو حبل نجاة يتناتشه الغارقون في البئر، بعد يأسهم من طول انتظار الأمل في الفرج. لكن، هذا بالذات ما ينتظره الذئب المتربّص بمن تبقى، بعد أن يستنقذ نفسه كل من هو قادر على المواجهة، بالعلم والصبر والشجاعة، فيبقى الضعيف والمسن والمريض، ولسان حاله مع زياد الرحباني يقول: «أنا مش كافر! بس الجوع كافر والذل كافر… أنا مقبور ببيتي ومش قادر هاجر… عم تاكل لي اللقمة بتمي وأكلك قدامك يا عمي… وإذا بكفر بتقلي كافر!» فهل يجدي السفر عندها إلى المريخ أو الزُهرَة، كبديل من مَد حبل في البئر؟
عندما يصبح جواز السفر هو الملاذ من ألم انتظار الأمل، فما على يوسف المنسي في البئر إلا السلام وهو يردد مع محمود درويش في مرثاة أحمد العربي «وأعد أضلاعي، فيهرب من يدي بردى… وتتركني ضفاف النيل مبتعدة… وأبحث حدود أصابعي… فأرى العواصم كلها زبدا…»