يستغرق القضاء وقتاً طويلاً جداً في التعامل مع ملفات الأخطاء الطبيّة، ما يجعل العدالة منتقصة، والردع دون أي فائدة. وتؤدي نقابة الأطباء دوراً سلبياً في هذه الملفات، فهي لا تخفي سعيها الدؤوب إلى تبرئة الأطباء المتهمين، أو تخفيف المسؤوليّة عنهم، أو إجراء مصالحات مع المتضرّرين للحصول على براءة ذمة مقابل تعويضات ماليّة، وصولاً إلى التلاعب بالوقائع الطبيّة كما ظهر في حالات عدّة
بين عامي 1997 و2015، أنهت «لجنة التحقيقات المهنيّة» في «نقابة الأطباء» دراسة 1442 ملفاً بشكاوى متعلّقة بوقوع أخطاء طبيّة، وأحالت 305 ملفات منها فقط على المجلس التأديبي. وبين عامي 2003 و2013، صدر عن القضاء اللبناني 8 قرارات، أكّدت 4 منها فقط وقوع أخطاء طبيّة وحكمت لمصلحة المدعين.
إلّا أن هذه الأرقام لا تعبّر عن عدد وحجم الأخطاء الطبيّة الواقعة في مستشفيات لبنان، فهي أكثر من ذلك بكثير، لكنها تعبّر بوضوح عن النهج المتبع في القضاء ونقابة الأطباء إزاء واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في العلاقات القائمة بين الناس والمؤسسات الصحية. إذ بات معلوماً أن نقابة الأطباء تمارس دورها الفئوي كأداة حماية للأطباء ومؤسساتهم في مواجهة نظام التقاضي، وهي غالباً لا تنظر في أحقية أي ادعاء بوجود الخطأ الطبي، بل تتحرك لتبرئة الأطباء المتهمين، أو تخفيف المسؤوليّة عنهم، أو إجراء مصالحات مع المتضرّرين للحصول على براءة ذمة مقابل تعويضات ماليّة، وصولاً إلى التلاعب بالوقائع الطبيّة، كما ظهر في حالات عدّة، آخرها ملف الطفلتين إيللا طنوس وصوفي مشلب.
تشمل الأرقام المذكورة الملفات التي أنهت لجنة التحقيقات في نقابة الأطباء دراستها واتُّخذَت قرارات فيها، أي إن عدد الملفات أكبر في ضوء وجود ملفات قيد الدراسة أو محفوظة، فضلاً عن أن الكثير من حالات الخطأ الطبي لا تبلغ أصلاً أبواب النقابة. أمّا الأحكام القضائيّة المنشورة، فهي فقط المنشورة من نقابة المحامين، ولا تتضمن القرارات الصادرة وغير المنشورة والملفات العالقة قيد التحقيق أو في طور المحاكمة… ومع ذلك فإنّ إنهاء «لجنة التحقيقات المهنيّة» في «نقابة الأطباء» 1442 ملفاً متصلاً بالأخطاء الطبية في غضون 18 عاماً، يعدّ رقماً كبيراً ويشكّل ما متوسطه 80 ملفاً في كل عام.
منظومة التقاضي
تُعدُّ القضايا المرتبطة بوقوع «أخطاء طبيّة» من أكثر المواضيع حساسيّة، لا لشيء إلا لكونها متعلّقة بحياة الناس، ورغم ذلك غالباً ما تُغطَّى من الجهات المُتحكِّمة بصحّة المواطن اللبناني، أي كلّ من نقابتي المستشفيات والأطباء، في ظلّ غياب أي تدخل جديّ من وزارة الصحّة، التي يتمثّل دورها بمراقبة مستحقّات المستشفيات الماليّة، ما يجعل الرقابة الطبيّة محصورة بالشكاوى التي تقدّم أمامها، وهي ذات صفة استشاريّة غير ملزمة. فضلاً عن اعتكاف القضاء عن تسريع بتّ هذه القضايا عند إحالتها عليه، ما يضرب «الردع» المُفترض تحقّقه في حالات مماثلة.
هذه الخلاصة، تدعّمها المنظومة المعمول بها، باعتبار أن الفصل في أي خطأ طبيّ، يكون إمّا عبر «لجنة التحقيقات المهنيّة» في «نقابة الأطباء» التي تدرس الشكاوى، وتحيل الملف، في حال ثبوت أي مسؤوليّة على الطبيب المعالج، على «المجلس التأديبي» ليصدر أحكامه القابلة للطعن أمام محكمة الاستئناف الناظرة بالقضايا النقابيّة، وإمّا عبر القضاء العادي، متى قرّر المتضرّر اللجوء إليه دون المرور بالنقابة، أي دون انتظار الحصول على قرار من «المجلس التأديبي» بحقّ الطبيب المدّعى عليه، إلّا أن ذلك لا يعني تحييد تدخلات «الأطباء والمستشفيات» عن عمل القضاء، بحسب قانونيين، لكون التقارير الطبيّة تصدر عن أعضاء في هذين الجسمين النقابيين، وغالباً ما تتحكّم في نتائجها، فضلاً عن الضغوط التي تُمارَس بدءاً من محاولة نفض أي مسؤوليّة عن أعضاء النقابتين (الأطباء والمستشفيات)، وصولاً إلى الإضراب والاعتكاف عن العمل وابتزاز المرضى بصحتهم بهدف انتزاع حصانة الأمر الواقع ومنع توقيف الأطباء المدّعى عليهم، (كما حصل عند إضراب الأطباء للإفراج عن زملائهم الموقوفين في قضية إيللا طنوس، وريتا زغيب التي توفيت عام 2012 مع جنينها وهي حامل بشهرها السابع، والرقيب الأوّل خليل حمد الذي توفي عام 1999 لتسبّب ثلاثة أطباء بوفاته نتيجة التمنع عن علاجه وإهماله).
نماذج من الواقع
يغيب أي توثيق عددي شامل للأخطاء الطبيّة الواقعة والقرارات الصادرة فيها والمسار القضائي الذي مرّت به، والأرقام الصادرة عن «نقابة الأطباء» لا تعكس الواقع الحقيقي لحجم الأخطاء الطبيّة التي ترتفع باطراد، بحسب دراسة أعدّتها «الجامعة الأميركيّة»، نظراً إلى نفوذ «لوبي» يتحكّم بالمنظومة الصحيّة ويحمي مصالحه. نعرض هنا 4 نماذج عن كيفيّة التعاطي مع قضايا مماثلة في مراحل مختلفة من النزاع، تؤكّد بطء المسار القضائي، ما يحوّل العدالة إلى شكليّة، وتحكّم نقابتي «الأطباء والمستشفيات» بقرارات تصدر لمصلحة أعضائها.
إبراهيم شقير: وفاة على باب الطوارئ!
تعبّر هذه القضية عن بطء الإجراءات القضائيّة، ومحاولات تجريد العدالة من معناها عبر دفع القضاة باتجاه عقد مصالحات. ففي حزيران 2016، صدر عن القاضي فادي ملكون حكم في قضية تمنّع مستشفى «المعونات» عن إغاثة إبراهيم شقير، وأعلن براءة المستشفى من الاشتراك الفعلي بالجريمة، مكتفياً بتحميله مسؤوليّة تبعيّة نتيجة أعمال مستخدميه. إذ أدان المدّعى عليها (س.هـ.) مسؤولة قسم الطوارئ في المستشفى، بموجب المادة 567/عقوبات لامتناعها عن إغاثة شخص بحال الخطر، وتغريمها بمليون ليرة، وإدانة المدّعى عليها «الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة» بجرم المادة 567/201 لامتناعها عن إغاثة شقير بتغريمها بمليوني ليرة، وإلزام المدّعى عليهما بدفع تعويض لورثة الضحية بقيمة 100 مليون ليرة، مع إعلان براءتهما من جرم المادة 564/عقوبات التي تنصّ على سجن من سبّب موت أحد عن إهمال أو قلة احتراز من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات. وفي التفاصيل، أصيب شقير بنزف حادّ في شباط 2006، عندما وقعت صخرة واستقرّت على ظهره. فنقله «الصليب الأحمر» إلى مستشفى «المعونات»، لكن مسؤولة الطوارئ رفضت استقباله لـ«عدم وجود أماكن شاغرة»، طالبة من الأهل «مراجعة قسم الدخول»، قبل أن ينقل إلى مستشفى آخر، بعد انتظار دام لأكثر من ربع ساعة، إلّا أنه توفي «بعد أربع دقائق من مغادرة المستشفى». يشار إلى أن البطء رافق الملف في كافة مراحله، إذ صدر قرار قاضي التحقيق عام 2008، فيما صدر قرار النيابة العامّة الاستئنافيّة عام 2010، بحجة ورود خطأ في القرار الظنيّ الذي ادّعى على المستشفى بدلاً من «الرهبانيّة المارونيّة» مالكته، إضافة إلى مرور الملف على أكثر من 10 قضاة «حاولوا إجراء مصالحة مع المستشفى بدلاً من إصدار حكم في الدعوى».
صوفي مشلب: تلاعب بالمستندات!
لا يستنتج من هذه القضية سوى محاولة «نقابة الأطباء» المستميتة لحماية أعضاء منتسبين إليها، ولو على حساب «الأخلاقيّات والإنسانيّة»، متجاهلة أخطاءً طبيّة ارتُكبت بحقّ طفلة لم تكن قد تجاوزت الشهر من عمرها، عند إخضاعها لعمليّة غير طارئة في أيار 2015 لاستئصال ورم غير خبيث في أسفل ظهرها دون موافقة الأهل، أدّت إلى إصابتها بضرر دماغي كامل أفقدها حواسها وأصابها بشلل رباعي وضرر كلوي دائم، نتيجة تعرّضها لصدمة بسبب توسّع الأوعية الدمويّة وهبوط حادّ في الضغط، لم يُكتشف لعدم وجود آلات مراقبة ضغط في غرفة العمليات.
الأرقام الصادرة عن «نقابة الأطباء» لا تعكس الواقع الحقيقي لحجم الأخطاء الطبيّة
لم تتقدّم العائلة حتى اللحظة بأي دعوى جزائيّة رغم مرور نحو 11 شهراً على الحادثة، بانتظار صدور قرار محكمة الاستئناف في بيروت، بعد أن طعن الأهل وطبيب البنج (ز. ف.) بقرار «نقابة الأطباء» الذي اعترف بوقوع 6 أخطاء طبيّة من أصل 25 خطأً حاصلاً بحسب المستندات الطبيّة المقدّمة من الأهل وإفادات أطباء في «الجامعة الأميركيِة» في بيروت. وهذه الأخطاء التي ذكرت في تقرير «النقابة» ترمي المسؤوليّة على طبيب البنج و«مستشفى الروم»، وتبرئ الطبيب المعالج (ن.د.) ومساعدته (ر.م.) ومسؤول قسم الإنعاش في المستشفى الطبيب (ر. ص.) من أي مسؤوليّة. إذ حاولت اللجنة «تحريف الحقائق»، عبر الإشارة إلى أن صورة الرنين المغنطيسي التي أجريت للطفلة قبل العملية تؤكّد وجود قصور مزمن في تغذية الأوعية، فيما تقرير «الجامعة الأميركيّة» المرفق بالصورة يؤكد العكس، وردّ الأضرار إلى أسباب متناقضة منها خلقيّة وجينيّة دون إجراء فحص للطفلة لتأكيد هذه الفرضية، ما يدلّ على انحياز واضح إلى الطبيب المعالج، الذي لم تعدّه مخطئاً لإجرائه العمليّة دون أخذ موافقة الأهل، ودون توفير الدم اللازم للطفلة التي كان تعاني فقراً في الدم قبل العمليّة، ودون توفير آلات مراقبة الضغط، وحتى دون مراقبة البول لاكتشاف توقف الكلى أثناء العملية نتيجة هبوط الضغط.
إيللا طنوس: كيديّة مماطلة!
تكاد تكون قضية الطفلة إيللا طنوس من أكثر القضايا التي أبرزت «تعمّد» المستشفيات المماطلة لتعطيل العدالة. إذ طعن مستشفى «المعونات» بالدفوع الشكليّة ثلاث مرّات رغم «عدم قانونيتها» لتمييع الوقت، وامتنع عن حضور جلسات الاستجواب، وأصرّ على «استجواب اللجنة الطبيّة التي أعدّت تقريراً يوزّع المسؤوليّة على 3 مستشفيات و3 أطباء، أمام القضاء». فالدعوى التي رفعتها جهة الادعاء في آذار الماضي مستندة إلى 3 تقارير، تحمّل مستشفيات «المعونات» و«أوتيل ديو» و«الجامعة الأميركيّة» وثلاثة أطباء عاملين فيها، مسؤوليّة فقدان الطفلة أطرافها الأربعة، نتيجة الإهمال والخطأ في تشخيص حالتها في «المعونات» من قبل الطبيب (ع.م.) والطاقم التمريضي، وامتناع الطبيب (ك.أ.) عن إغاثتها في «أوتيل ديو»، فضلاً عن استمرار معالجتها بأدوية رافعة للضغط، من قبل الطبيبة ر.ش. إضافة إلى ارتكاب أخطاء في تشخيص حالتها في «الجامعة الأميركيّة». وهي تقارير تنقض تقرير «النقابة» الذي نفى «وجود أي خطأ طبي». وبعد سنتين من الانتظار، صدر القرار الظنيّ عن القاضي جورج رزق، الذي ظنّ بالمدّعى عليهما الطبيبين (ع.م.) و(ر.ش.) بالجنحة المنصوص عليها في المادة 565/عقوبات والمتعلّقة بالتسبّب بإيذاء غير مقصود، والظنّ بالمدّعى عليهما «سيّدة المعونات» و«الجامعة الأميركيّة» بالجنحة المنصوص عليها في المادة 565/210 من قانون العقوبات والمتعلّقة بإيذاء تسبّبه المؤسّسات المعنويّة جراء عمل أحد أعضائها، والظنّ بالمدّعى عليه الطبيب ك.أ. بالجنحة المنصوص عليها في المادة 567/عقوبات والمتعلّقة بالامتناع عن إسعاف شخص في حال الخطر، وبالمدّعى عليه مستشفى «أوتيل ديو» بالجنحة المنصوص عليها في المادة 567/201 من قانون العقوبات المتعلّقة بامتناع إحدى المؤسّسات المعنويّة من خلال أحد أعضائها عن إسعاف شخص في حال الخطر.
سوزان منصور: إخلاء سبيل «منتحل صفة» طبيب!
تعبّر هذه القضيّة عن مدى قدرة «الأطباء والمستشفيات» على التحكّم بالقرارات رغم فقاعة الأخطاء الطبيّة المرتكبة، بما يمنع تحرير صحّة الناس وحياتهم من «براثن فساد المنظومة الطبيّة». فقد توفيت سوزان منصور في آب الماضي، بعد أن دخلت لإجراء عملية تجميليّة في بطنها في مستشفى «صور الحكومي» على نفقة «وزارة الصحّة» بحجة أنها «عمليّة تمزّق عضلي»، وقد تعاون فيها ثلاثة أطباء، أحدهم غير مسجّل في «نقابة الأطباء» وغير حاصل «على كولوكيوم لممارسة المهنة»، فتوقف قلبها في خلال العمليّة، ليتبيّن أنها أصيبت بورم دماغي بعد انقطاع الأوكسيجين عنها مدة طويلة.
إلّا أن أي تطوّر لم يسجّل في القضية حتى اليوم، باعتبار أن مدير المستشفى ما زال في موقعه، وكأن انتهاء حياة منصور على يد «منتحل صفة» في المستشفى التي يديرها يعدّ حدثاً عابراً. فقد قدّم ورثة الضحية شكوى أمام وزارة الصحّة التي أجرت تحقيقاً حمّلت فيه الأطباء بالتكافل المسؤوليّة كاملة، وأوقفتهم عن العمل مع مدير المستشفى قبل أن تتراجع عن توقيف الأخير. وقُدِّمَت شكوى أمام النيابة الاستئنافيّة في الجنوب، التي استمعت إلى الأطباء وتركتهم رهن التحقيق، بانتظار الحصول على تقارير المستشفيات التي تنقلت بينها الضحية (صور الحكومي والكندي في صور، وبيروت الحكومي)، والتي لم تصدر حتى اليوم، لكون الطبيب ج.ن. مدير أحدها. كذلك لم تصدر «نقابة الأطباء» تقريرها بعد أو تعطِ الإذن بملاحقة الأطباء.