Site icon IMLebanon

«قلنا ما قلناه»

 

سنة مرّت على رحيل السادس والسبعين، ذلك الذي جاهد طوال حياته ليستحق لقب الحقير الذي حمله أسلافه بطاركة أنطاكيا وسائر المشرق الذين عاشوا بتواضع وكرامة وكرّسوا ذاتهم للخدمة. ذلك الذي عاش واضعاً نصب عينيه شعار بداية الصوم: «إنه تراب وإلى التراب يعود». يقيناً منه أنّ ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً لا ذهباً ولا فضة، بل هو بِرّ وسلام، صفاء ومحبة.

 

وهو الذي قال يوم تكريمه وهو على مشارف الخامسة والتسعين،

 

«… وقد مَنحني الله هذا العمر، بأفراحه وآلامه، لكي يتيح لي المزيد من الوقت لعبادته، بإقامة الذبيحة الالهية، والشهادة لإيماننا البطرسي، في انطاكيا وسائر المشرق، وحيثما كنّا من العالم كله، نَجهر بالحق، نتّخذ الموقف المبدئي القويم، نعيش لاهوت كنيستنا، الواحدة الجامعة، الرسولية، خصوصاً في أزمنة الخطر والصعوبة…».

 

وكأنّ كل ما حصل من أزمات منذ 17 تشرين الأول المنصرم وما رافَقها من هَرج ومرج رفض أن يحدث على حياته إجلالاً له ولوقاره. ولكننا نطرح على أنفسنا السؤال التالي: ماذا كان حدث لو كان نصراالله بطرس صفير بيننا؟

 

هو الذي منذ البدايات كان قد رافَق البطريرك خريش كأمين لسرّه، كان شاهداً على المحاولة الأولى لتقويض الشرعية اللبنانية وثَني يد المارونية السياسية وكسر هيبة الدولة اللبنانية التي كانت صنيعة الموارنة ونتيجة لنضال بطاركتهم، حيث أبصرت النور مع البطريرك الياس الحويّك وقَوي عودها مع أنطون عريضة. أصبح نائباً بطريركيا سنة 1961، وكان عضواً في اللجنة الأسقفية التي سيّرت شؤون البطريركية مع مرض البطريرك المعوشي.

 

إستحق لقب الحقير في نيسان عام 1986، وحمل صليب لبنان في أحلك ظرف، وعمل جاهداً لإصلاح ما يمكن إصلاحه.

 

ففي عهده انعقد المجمع البطريركي ثاني المجامع الكبرى بعد المجمع اللبناني المنعقد عام 1736، وقد شكّلت نصوص هذا المجمع تثبيتاً لهوية الكنيسة المارونية «السريانية» وأسس عمل الكنيسة في المستقبل.

 

على الصعيد الوطني كان همه الدائم استقلال لبنان الناجز والتام، وهو صاحب القول الشهير: «… ونحن الذين لجأنا إلى المغاور والكهوف في عهد الظلم والظلام طِوال مئات السنين لِيسلم لنا الايمان بالله وعبادته على طريقتنا في هذه الجبال وعلى هذه الشواطئ ولتَبقى لَنا الحُريّة التي إذا عُدمناها عدِمنا الحياة»….

 

أطلقَ نداء الموارنة الشهير الذي شكّل أساساً لحركة اغترابية عالمية أنتجت القرار الدولي 1559، الذي أخرج الجيش السوري من لبنان.

 

على صعيد الداخل، أدرك جيداً، وهو العارف بتاريخ شعبه، أن لا استقرار في لبنان الكبير ما لم يكن جناحا لبنان الصغير (الموارنة والدروز) بتناغم تام، فكانت مصالحة الجبل.

 

وعن الانحطاط السياسي، كان يردد دائماً، «بئس هذا الزمن الرديء» حيث أصبحنا نعيش في زمن أشباه رجال وأقزام في السياسة، حيث أفل عهد العمالقة. وليس من باب الصدفة أن يتزامَن رحيل البطريرك صفير مع ذكرى غياب رجل دولة من طراز ريمون إده، يَستجلي المستقبل ببصيرة واسعة ولكان جلس على كرسي الرئاسة لو حاد قيد أنملة عن مبادئه، على حدّ قول البطريرك صفير.

 

فالرجلان «قالا ما قالاه» وسارا في الحياة، فقصر المهاجرين الذي رفض ريمون إده التعريج عليه كممر إلزامي لقصر بعبدا، لم يسمع به البطريرك صفير قط.

 

ريمون إده كالبطريرك صفير رأى أنّ المدخل الى الحل يبدأ بتدويل الأزمة. الرجلان عرفا تماماً أنّ اتفاقية القاهرة جَلبت الويلات، وسمحت بالوقوع في المحظور. مقام الرئاسة بالنسبة لهما على قدر عال من القدسية ولا يجب تحويل الرئيس الى «باش كاتب»، فإذا خسرت الرئاسة الأولى هيبتها خسرنا كل شيء.

 

علينا إذاً أن نُعْلن العودة إلى الجذور، لنتطهّر من أخطاء سياسيينا، علينا أن نعود إلى قدسية مار مارون، لا لننكفىء، بل أن نكون شهود حق ورسلاً للبنان الكرامة وعزّة النفس وفي العالم بأسره، أن نبحث على قادة رأي «أوادم» من طينة نصرالله صفير وريمون إده، قادة رأي من طينة العمالقة الذين يخاصمون بشرف ويصادقون بطوباوية.

 

ويبقى أن نتعلّم من الرجلين أنّ طريق الحل ممكن ويكمن بالعودة إلى مكمن الخلاف إلى العام 1860، ونبدأ بأخذ ما هو جيّد ونَبذ ما يخرب!

 

فالمعارضة شيء أساسي، ولكن فليكن على شاكلة معارضة الحلف للنهج، لا على شاكلة الأفكار الشمولية التي تدعو إلى الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، الإعتراف بالتعددية الحضارية، العودة الى الاقتصاد الليبيرالي اليميني، تطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان بما يضمن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم، وصولاً إلى عقد اجتماعي جديد وحقيقي يضمن حقوق المجموعات الحضارية الموجودة على أرض لبنان.