IMLebanon

البطرك وعلمانيو الثورة

 

ثورة 17 تشرين الرائعة، فضلاً عن كونها ثورة على منظومة الفساد والإفساد، هي بالدرجة الأولى ثورة ضد الحرب الأهلية ومنطقها وآلياتها وأدواتها وصانعيها ومموليها ومسلِّحيها (بكسر اللام) ومستحضري مفرداتها ومشعلي جمرها المخبّأ في الرماد وفي اللاوعي. ليس من الثورة اليوم من تخطر الحرب الأهلية في باله بأفكارها ومن يستحضر من أسلحتها حتى الكلمات.

 

اعتراض العلمانيين على الإشادة بمواقف غبطة البطرك من الثورة ومن منظومة الفساد يدفعني إلى الشك بالمعنى الشائع لمصطلح العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة. الفصل الصحيح هو بين سلطة الدين (الكنيسة المسيحية والإسلامية) وسلطة الدولة، أي الفصل بين سلطة رجال الدين وسلطة رجال الدولة. الفارق بين التفسيرين ليس كبيراً فحسب بل إنهما يفضيان إلى استنتاجات متناقضة.

 

التفسير الشائع يجعل الدين وما يتعلق به من رموز وطقوس هو العقبة أمام قيام الدولة، فيما الصحيح أن المعتقدات الدينية يمكن أن تتعايش مع كل الأنظمة السياسية، وكذلك مع كل أنماط الإنتاج، بحسب تعبير سمير أمين. غير أن منشأ النزاع بين العلمانية والكنيسة هو السلطة، وليس المعتقد، هو ليس الاقتصاد بل إدارة الاقتصاد؟

 

العلمانية تنتمي إلى شجرة عائلة من المصطلحات والمفاهيم الفلسفية والسياسية المتحدرة من الثورة الفرنسية من بينها الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وهي لم تنتزع من رجال الدين حقوقهم المنصوص عليها في الشرعة بل انتزعت منهم سلطتهم السياسية وسلمتها لممثلي الشعب بعدما كانت بيد ممثلي الله المزعومين على الأرض.

 

لأن العلمانية من تلك الشجرة فهي ليست ضد الدين ولا ضد رجاله ولا ضد طقوسه ولا ضد المعتقد، بل ضد تحويل المؤسسة الدينية إلى سلطة سياسية. العلاقة الملتبسة بين العلمانية والكهنوت المسيحي أو المسلم ليست مسؤولية طرف دون الآخر. حين يفتقر أحدهما إلى الديموقراطية ينظر إلى الآخر شزراً.

 

رجال الدين ليسوا سواسية. هم بشر كسائر البشر، كسائر الحزبيين، بينهم البخيل والكريم، الشجاع والجبان، الحكيم والمتهور، العاقل والجاهل، الحليم والأرعن، الفقيه والسوقي، العالم وخريج دورات الفك والتركيب، بحسب تعبير السيد هاني فحص. هذا في كل الأديان وفي كل الطوائف. موسى الصدر وشيخ الكابتاغون، صبحي الصالح والشيخ الحرامي. هاني فحص نظمت الكنيسة تكريماً له فرفعت الأذان وتلت الأبانا، غريغوار حداد شيّعه مسلمون ومسيحيون بعد إفراد الكنيسة له وظلم ذوي القربى، مارون عطالله راعي الثقافة والاعتدال وشربل قسيس عضو فاعل في جبهة الحرب الأهلية. كتابي، أحزاب الله، العلماني شكلاً ومضموناً، وضع له الشيخ الفقيه علي حب الله مقدمة قال عنها النقيب الأديب رشيد درباس إنها تضاهي متن الكتاب لا في عمقها وثقافة كاتبها فحسب، بل في علمانيتها أيضاً.

 

القرار باستبعاد رجل الدين لأنه رجل دين هو حكم مسبق أو مصادرة على المطلوب. هو الوجه المقلوب لاستبعاد نقده. يشبه قرار المفتي بالهجوم على كنائس الأشرفية رداً على الصحيفة الدنماركية، وباعتراضه على أغنية أنا يوسف يا أبي، لأنها من آيات القرآن، متجاهلاً نص الآية، وما محمد إلا بشر.

 

لست مؤهلاً للحكم على موقع البطرك ودوره. لكن موقفه المتكرر وتصريحاته عن منظومة الفساد وعن الدولة والدستور علامة مضيئة تجعله نصيراً للثورة.