حلم جمع المسيحيين لم يراود أحداً كما تمنّاه البطريرك بشارة الراعي. البطريرك الذي كرّسه مجمع المطارنة بطريركاً على كرسي أنطاكية وسائر المشرق، افتتح مهمّته بشعار الشركة والمحبة، وكان التأثير المعنوي للبطريرك الجديد حاضراً، فالتقى عنده من سُمُّوا بالأقطاب الموارنة الأربعة، أو الأقوياء كما نجح ميشال عون على وجه التحديد بتسويق فكرة القوة في الوجدان المسيحي.
لم تكتوِ الكنيسة المارونية بنار أصعب من تلك المحطة التي كان البطريرك الراعي يأمل منها الجمع، فتلقّى المزيد من الأحقاد والشقاق، الذي سبق ورافق وأعقب تفاهمات الأخوة. لم تنل الكنيسة ممّا كان يفترض أن تحقّقه إلا صورة باهتة، أحدثت فرزاً وهمياً أراده بعض «الأقوياء» ممهوراً بتوقيع الكنيسة، بين أقوياء وضعفاء، لكنّ الصورة إيّاها، لم تحدث الفرز المطلوب بين من يؤمن ويلتزم بنصوص الكنيسة المرجعية، وبين من أطاح بكل تاريخ المسيحيين وارتهنه لدى الوالي الجديد، الذي يستطيع أن يصنع رؤساء للجمهورية ببندقية المقاومة.
لم يعد من الوارد لدى البطريرك الراعي تكرار ذلك المشهد الكئيب، فالجميع أبناء الكنيسة، ولا أقوياء ولا ضعفاء إلا بما يلتزمون به من ثوابت وطنية وكنسية. لم يعد من الوارد لدى البطريرك الراعي أن يجمع أحزاباً وقوى لا تجتمع ولا يمكن أن تتفق، فقط لالتقاط صورة فولكلورية، سوف تطيح بها خطابات التحريض بعد ساعات من حصول اللقاء.
في دليل واضح على عقم فكرة الحوار المسيحي في بكركي، ما قام به النائب جبران باسيل، الذي تعهد أمام البطريرك الراعي الاجتماع مع أيّ كان برعاية الكنيسة، لكنّه وفور خروجه من الديمان، أعلن ما يشبه معادلة «أنا الأكثر تمثيلاً وأنا أو لا أحد»، وهذا المثل يكفي لانكشاف مناورات من يريدون التلطّي وراء الكنيسة، لتنفيذ مآرب سياسية شخصية، بات البطريرك الراعي على حذر ووعي كبيرين من خطورتها وعقمها، كما على وعي من عدم جدوى صرف هيبة الكنيسة وقوّتها المعنوية، في مصالحات لا أفق لها، ولا حظ بأن تصل أبعد من صالون كنيسة الصرح.
لهذا تلقّت مناورة باسيل ضربة في مهدها، فالكنيسة التي طرحت ثوابت ومعايير رئاسية، لن تعود إلى نغمة اتفاق المسيحيين بطريقة عشائرية تفرض على شكل رئيس «قوي» بنسخة عونية قديمة جديدة. هذا لم يعد مطروحاً كنسياً بل المطلوب رئيس لا يشكّل انتخابه استمراراً للسنوات السابقة، والمطلوب رئيس يختلف عن المرشح الذي يتمّ توقيف مطران من أجل إيصاله إلى بعبدا.
لهذا يتسلّح البطريرك الراعي إلى الآن بالصمت، ولا يفصح عن الأسماء المقبولة من الكنيسة والتي تستوفي المعايير. هذه الأسماء موجودة لكن لن يباح بها قبل التأكد من حصول الإنتخابات، ولن ترمى في حرائق المناورات الرئاسية، قبل أن يتم التأكد من أن جلسة لمجلس النواب سوف يكتمل فيها النصاب، تمهيداً لانتخاب رئيس جديد، وكل ما عدا ذلك يبقى نشاطاً تسويقياً من طامحين كثر يزورون الصرح البطريركي، ويخرجون بانطباعات شخصية ويعمّمونها في المجالس، كتمنيات قد لا يتحقق الحدّ الأدنى منها.
تستمرّ بكركي بمعالجة ذيول توقيف المطران الحاج، ومواجهة ما يحكى عن تسوية تحمل نكهة الفرمان العثماني في التعامل مع الكنيسة. إلى أن تتوضح هذه التسوية، أو إلى أن تقبل أو ترفض، ستبقى قضية المطران الحاج دليلاً على وجود نية بترهيب موقف البطريرك الراعي الذي وضع مواصفات الرئيس، قبل أن ينتقل إذا ما تم تجاوزها، إلى ممارسة الفيتو المعنوي رفضاً للرئيس الدمية، وهذا الفيتو لا تقتصر أهميّته على الأثر المعنوي.