عباءة الإمام الصدر والرّصاص على بكركي
يفتح المفتي قبلان صفحات جديدة في العلاقة بين المرجعيات الدينية الشيعية والمرجعية المارونية في بكركي، تحاشى من سبقه من مرجعيات شيعية التطرق إليها بحيث كانت الإيجابية طاغية على هذه العلاقة التاريخية بالإضافة إلى الاحترام المتبادل لدور المرجعيات ولغة التخاطب.
لم يسبق أن خاضت أيّ من المرجعيات الشيعية حرباً شاملة ومركّزة ومستمرّة على بكركي وما تمثّله في التاريخ اللبناني والمسيحي في الشرق. ولم تفعل ذلك أيضاً المرجعيات السياسية للطائفة الشريكة في تكوين دولة لبنان الكبير. من الإمام موسى الصدر إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ عبد الأمير قبلان، والد المفتي أحمد، والمرجع الكبير السيد محمد حسين فضل الله. وكذلك على المستوى السياسي من سائر رجالات السياسة الشيعية من صبري حماده إلى أحمد بك الأسعد وابنه كامل، إلى الرئيس عادل عسيران وكاظم الخليل… وحتى إلى الرئيس نبيه بري. لم تتغيّر بكركي ولن يتبدّل دور البطريرك وإن تبدّلت الأسماء ولكن ما تغيّر ويتغيّر هو واقع الطائفة الشيعية التي تعيش بين زمنين: زمن ما قبل «حزب الله» والجمهورية الإسلامية في إيران وزمن ما بعده منذ العام 1982. ومشكلة هذا التغيّر لا تقتصر على البطريركة المارونية بل تتعدّاها إلى سائر المكوّنات اللبنانية وإلى سائر محطات التاريخ اللبناني القديم والحديث، مع أن التاريخ لا يتحدّث عن صراعات عصيبة بين الشيعة والموارنة.
أين مرشح «الحزب» للرئاسة؟
اللافت أن مواقف المفتي قبلان تشكّل مادة جيّدة للحملات التي يشنّها كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي على البطريرك الراعي وتستكمل ما لا يقوله مباشرة وتصل إلى احتقار البطريرك وإهانته واتّهامه بالتعامل مع إسرائيل. كلّ ذلك يحصل بينما يحتاج لبنان في هذه المرحلة إلى ما يجمع وليس إلى ما يصنع عداوات. ويحتاج «حزب الله» أيضاً إلى أن يخلق أجواء مهيِّئة للتضامن معه وليس إلى فتح معارك بينما تستمرّ الحرب التي يخوضها بقرار منه على كامل الأراضي اللبنانية من دون أن يأخذ في الاعتبار موقف الدولة الرسميّ ومواقف سائر المعارضين لسياسته وقراراته التي تنعكس على كل اللبنانيين وعلى كل لبنان.
واللافت أيضاً أنّ هذه الحملات على الراعي تترافق مع محاولة «حزب الله» إبقاء خيوط تواصل معه من خلال ما يحصل من لقاءات عند النائب فريد الخازن يشارك فيها مسؤول ملف العلاقة مع المراجع المسيحية محمد سعيد الخنسا ومصطفى الحج علي ممثلين عن «الحزب» والمسؤول الإعلامي في الصّرح البطريركي المحامي وليد غيّاض. حتى الخازن لم يستطع أن يترك هذه الإساءات تمرّ من دون أن يعلّق عليها وإن كانت المسألة تحتاج إلى تظهير موقف أكثر دفاعاً عن البطريرك وما يمثله في موقعه الديني. ولا يقتصر الأمر على الخازن وحده بل يمتدّ إلى السؤال عن موقف مرشح «حزب الله» الوحيد لرئاسة الجمهورية رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية الصامت في وقت يُعتبر الصمت تخاذلاً لا يخدم مصلحته في أن يكون رئيساً خاضعاً لمشيئة السيد حسن نصرالله أكثر ممّا هو خاضع للكنيسة المارونية.
فضل لبنان الكبير على الشيعة
عانى الشيعة في لبنان كما الموارنة من ظلم الأتراك وحكم السلطنة العثمانية. وفُتحت لهم أبواب السلطة في دولة لبنان الكبير الذي أدّت الكنيسة المارونية دوراً أساسياً في تحقيقه. هذا الإنجاز لم يكن مجداً للموارنة فقط بل لكلّ الذين شملتهم نعمة هذه الخريطة الجديدة. ولهذا «اللبنان» فضل على كل تلك الطوائف المكوّنة له. عن هذا الفضل كتب القيادي الشيوعي السابق كريم مروة في 17 آب 2023 مقالاً تحت عنوان «فضل لبنان الكبير على الشيعة» ويحكي فيه عن العطاءات التي أمّنها هذا «اللبنان» إلى الشيعة في لبنان معتبراً أنّ «هناك إنكاراً مجحفاً لفضل «لبنان الكبير» على الشيعة، هذا الكيان الذي أعطاهم ما لم يحصلوا عليه خلال 500 عام من الحكم العثماني و250 عاماً من الحكم المملوكي».
هذا «اللبنان» كان جسر العبور الذي نقل شيعة لبنان من الحرمان الذي كانت تعيشه كل الطوائف إلى مستويات جديدة من الثروات والشراكة الوطنية. وهو أمّن لهم كما لغيرهم حرية العمل والحضور والانعتاق من الوصايات. ولم تعمل الدولة الحديثة من أجل الموارنة بل من أجل اللبنانيين، ولذلك توزّعت المشاريع الإنمائية على كل لبنان متخطّية أي حدود داخلية. ولكن ما حصل أنّ الخطاب الشيعي تأثر بشكل كبير مع الصّعود المسلّح لـ»حزب الله» لكي يصل إلى حدّ إنكار هذا الفضل ومحاولة تحطيم صورة ما أنجزته البطريركية المارونية من أجل كل اللبنانيين وليس من أجل الموارنة وحدهم. وإلا لماذا لم يختر البطريرك الياس الحويك وطناً صغيراً على قياس الموارنة في حضورهم المناطقي والتاريخي؟
البعد الديني المستقل
والحضور الشيعي في الدولة الحديثة لم يقتصر على الإنماء المناطقي والتحصيل العلمي والثقافي والحريات السياسية بل أعطى للشيعة بعدهم الديني المستقل. فـ»المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» في لبنان كان أول هيئة دينية تحقّق الاستقلالية المذهبية للشيعة في العالم قبل أن تكون إيران جمهورية إسلامية. والأحداث تشهد أن بوادر هذه الجمهورية انطلقت من هذا الدور الذي تأمّن للشيعة في لبنان. عندما وصل الإمام موسى الصدر إلى صور في العام 1959 كانت بداية هذا التأسيس الجديد للتاريخ الشيعي في لبنان والعالم. وعندما أسّس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» لم يكن الموارنة من وقفوا ضدّه بل قيادات سياسية ودينية شيعية وسنية ارتابت من دوره ومن حضوره واعتبرت أن هذا الحق الذي يعطى له انتقاصٌ من سلطتهم السياسية والدينية.
من هناك انطلق الصعود الشيعي الديني والسياسي. كانت المرجعيات الدينية الشيعية متركّزة في النجف ولكنّها بدأت تنتقل إلى لبنان. في بداية الستينات شهد لبنان عودة قائدين دينيين شيعيين بعد الإمام موسى الصدر وهما السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد شمس الدين اللذان كان لهما دور كبير في ترسيخ حضور الطائفة السياسي والديني في لبنان والعالم العربي. وعلى مدى مسيرة هؤلاء القادة ترسّخ الحضور اللبناني الموحّد والجامع في خطابهم الديني والسياسي خصوصاً مع إعلان الشيخ شمس الدين «وصاياه» إلى الشيعة بأن يكونوا جزءاً من أوطانهم لا مشاريع في خدمة أوطان أخرى. وهذا ما أدّى أيضاً إلى الاختلاف الكبير بين مرجعية السيد محمد حسين فضل الله وبين مرجعية «حزب الله» ومشروع ولاية الفقيه في إيران.
ماذا لو بقي الشيعة جزءاً من سورية؟
مع المفتي قبلان بدا وكأنّ هناك ابتعاداً عن هذا الخط. ومواقفه ضد البطريرك الراعي ليست الأولى من نوعها ذلك أن الفكر الديني الذي يدير «حزب الله» يحاول إصلاح التاريخ الديني والسياسي في معضلة الصراع السني الشيعي منذ موقعة كربلاء. بينما ينحو الشيخ قبلان أيضاً أبعد من ذلك في موجة إحداث تغيير في التاريخ السياسي الحديث المؤثر في تكوين الدولة اللبنانية عندما يعتبر أن مجدَ لبنان لم يتأمَّن إلا مع المقاومة الإسلامية، إنكاراً للشعار الذي يرتفع عند مدخل مقرّ البطريرك في بكركي «مجد لبنان أعطي له».
في السياسة لم يكن دور الشيعة ثانوياً. طوال أعوام كانت الشراكة مؤمّنة ولكن بحضور لا يتناغم في تاريخه مع ما يريده «حزب الله» من خيارات جديدة لهذا الكيان. يريد «الحزب» دولة إسلامية يكون لبنان إحدى ساحاتها التي تنتهي كلها في طهران. لم يكن عادل عسيران وأحمد الأسعد وكامل الأسعد وصبري حماده وصولاً إلى نبيه بري من دعاة هذه الدولة الإسلامية وحكم ولاية الفقيه. وكان الحضور السياسي الشيعي متوازناً ومتوزّعاً على كل الإتجاهات السياسية والتحالفات. وليس صحيحاً أنّ الشيعة كانوا في بيروت، ماسحي أحذية وعمالاً مياومين وعتّالين في المرفأ وأسواق بيروت. بل كانوا أصحاب أدوار في الصراعات السياسية.
يعتبر كريم مروة أنه «إذا كان من بين الشيعة اليوم من هم من أغنى أغنياء لبنان، أو من أفضل مثقّفيه وإعلامييه وفنانينه، فهو بسبب دخولهم لبنان الكبير، وليس العكس. دخول الشيعة لبنان الكبير فتح أمامهم أبواب العلم والتقدّم…» ويسأل: «والآن فلنفترض العكس: ماذا لو بقي الشيعة جزءاً من سورية أو فلسطين كما كانوا تاريخياً؟ أما كانت حالهم اليوم كحال السوريين والفلسطينيين الرازحين تحت البؤس والعوز والظلم والتهجير؟».
عباءة الإمام الصدر
ما يعلنه المفتي قبلان هذه الأيام ليس جديداً. في الأول من تشرين الثاني 2009 أعلن البطريرك مار نصرالله بطرس صفير «أنّ السلاح والديموقراطية لا يتفقان و»حزب الله» يعمل لمصلحة إيران أكثر ممّا يعمل لمصلحة لبنان». وقد ردّ عليه المفتي قبلان بالقول «إن سلاح المقاومة باقٍ ما دامت إسرائيل تهدّدنا وتهدّد وجودنا ومعتقداتنا… فنحن نحمي لبنان وطوائفه وكيانه ووجوده وصيغة العيش المشترك الحقيقية فيه… ما علا مجد لبنان إلّا بمقاوميه الشرفاء الذين بذلوا الأرواح والدماء في سبيل الأرض والعزّة والكرامة».
عندما يعظ المفتي قبلان يتذكر كثيرون السيد موسى الصدر. في الأول من تموز 1975 عندما فكّ اعتصامه في جامع الكلية العاملية أعلن:
يا أبناء بعلبك الهرمل الأبطال، إنني بعد أن شاهدت أن الأسلحة الفتاكة المنتشرة بين أيدي الناس بدأت تفتك بالوطن فتمزّقه، وتفتك بالأبرياء فتشوّه سمعة البلاد والعباد، وتسحق مستقبل المنطقة. إنني بعد أن شاهدت ذلك، ولاحظت أن أية خطوة عنيفة أخرى، مهما كانت النوايا فيها، ستساعد على تمزيق الوحدة الوطنية وعلى تدمير المعالم الإنسانية، لذلك اخترت الصيام والاعتصام… أيها الإخوة، إنني أقول لكم أخيراً، إن كل طلقة تُطلق على دير الأحمر أو القاع أو شليفا… إنما تُطلق على بيتي وعلى قلبي وعلى أولادي، وإن كل فرد يساعد على تخفيف التوتر أو إطفاء النيران، إنما يساهم في إبعاد النار عني وعن بيتي وعن محرابي ومنبري».
ترى ماذا يقول الصدر اليوم عندما تستهدف «الطلقات» بطريرك الموارنة؟