أبعد من الحرب في الجنوب، والمطالبة بالحياد عن أحداث المنطقة، وأبعد من انتخاب رئيس الجمهوريّة، يدفعنا كلام غبطة البطريرك المتواصل إلى التفكّر بعد كلّ عظة يتباكى فيها على حال المسيحيين في قرى الجنوب الحدوديّة، يكاد يقول بالفم الملآن إفرزوا هذه الأرض قطعة مسيحيّة لأنّا لا نريد أن نحارب إسرائيل ، وقطعة للذين يريدون أن يحاربوا وهؤلاء لا ردّهم الله لأنّهم هم اختاروا الحرب والموت والمواجهة!
ويتألّم صاحب الغبطة في كلّ عظة ويتباكى على انتخاب رئيس الجمهوريّة وما هو أسوأ من ذلك إلقاء التّهمة على الفريق الآخر ووصفه بالمعرقل، والحقيقة أن هذه العرقلة مارونيّة مئة بالمئة، فماذا نسمّي واحداً كجبران باسيل مثلاً، وهذه العرقلة موجودة من زمن قيام الجمهوريّة، حتى غبطته لا يستطيع أن يُقرّب المسافة بين الموارنة المتسابقين على الكرسي ولا التأليف بين قلوبهم، وأكبر دليل على أنّ انتخاب رئيس مسيحي ماروني للبلاد لم يعد يُجدي نفعاً ولا شيئاً ، فتجربة الرئيس السابق ميشال عون «الرئيس القوي» ، الذي من شدّة قوّته فجّر البلد عن بكرة أبيه! وفي انزعاج البطريرك وقلق غبطته على مسيحيي الجنوب فليسمح لنا، لأنّ معادلة ناس بسمنة وناس بزيت معيبة جداً بحقّ غبطتك ، والعدل يقتضي أن نقول أنّ أهل الجنوب من الطائفة الشيعيّة هم الذين تمسّكوا بأرضهم وحاربوا ودافعوا عنها وواجهوا العدو لتبقى هذه الأرض للبنانيين مسيحيين وشيعة، صحيح أن هناك شيعة انزلقوا في بحر عمالة للجيش لحد، ولكن مسيحيي الجنوب ارتموا في الحضن الإسرائيلي ضد جيرانهم وشركائهم في الوطن، وهؤلاء فرّوا مع إسرائيل وتمّ الصفح عمّن اشترك بالعمالة بالقانون بأحكام مخفّفة ليعودوا متذمّرين من حماية لبنان لحدوده في لحظة مصيريّة للمنطقة! يا صاحب الغبطة هكذا كلام وتساؤلات وتداعيات قلق من هنا وقلق من هناك تستدعي ذاكرة جيش سعد حداد وأنطوان لحد وجرائمهم، وصدّقني البلد مش ناقص هزّات من هذا النّوع! وصدقني أيضاً يا غبطة البطريرك إنتخاب رئيس جمهورية مسيحي مسؤولية مسيحية، وصدّقني أنّه يتوجّب علينا أن نعيد قراءة الواقع على الأرض حتى لا يكرّر الموارنة نفس الخطأ الذي تسبّب في سبعينات القرن الماضي بحرب أهليّة، فبصرف النّظر عن الوجود الفلسطيني وما ترتّب عليه، أصرّ الموارنة على منع المسلمين حقّهم في المساواة مع أنّهم كانوا أكثر منهم تعداداً بحجّة الخوف.. اليوم يا صاحب الغبطة يتكرّر نفس الخطأ وتصرّون أنّ النّصف حقّكم مع أنّكم بالكاد تشكّلون الثلث، هل علينا أن نذهب مجدّداً إلى معارك أهليّة بسبب هذه المعادلة، لستم النصف ولا الثلث حتى، لذا على الأقل إسمحوا للطائفتين الوازنتيْن أن يكون لهما دور هو حقّ في اختيار رئيس البلاد، فليس لأنّه ماروني يجب أن ينحصر اختياره بالمسيحيين الذين يتقاتلون بين بعضهم على هذه الرئاسة، فالرئيس رئيس لكل لبنان وليس للمسيحيين وهو حكم فوق الجميع ولا نريد تجربة انحياز واستفراد بالحكم بعد تجربة ميشال عون الذي أجمعتم على اختياره «نكاية» باختيار الرئيس سعد الحريري في تسوية البيْك سليمان فرنجيّة وكنّا ضدّها وقتها، وما نزال ضد هذا الاختيار! غبطة البطريرك إمّا «شركة ومحبّة» مع كلّ اللبنانيين، وإمّا علينا أن نبحث جديّاً في فكّ هذه الشّركة، وللمناسبة مساحة قائممقاميّة ومتصرفيّة جبل لبنان لم تعد قابلة للتصريف، هذا الحلم صار وهماً وبحّ!! أنظر إلى المنطقة حولنا، إنّهم لا يرحمون أحداً، فارحمنا غبطتك على عتبة الحرب من التباكي على أوهام الحياد، حان وقت التعاطي بجديّة في موضوع انتخاب رئيس جدّي لبلاد مجنونة!