لطالما تميّزت بكركي بكلامها الموزون والعادل، وحتى في أحلك الظروف تكون كلمات البطريرك مُنتقاة بدقة ودراية ودراسة، لكنّه يحمل عمقاً سحيقاً في المعنى، وتعمّقاً في المشكلة، وتمرّداً على الخطأ، وعصياناً على الجمود السائد.
مَن راقب ويراقب عظات البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ومواقفه المتصاعدة، وصولاً إلى عظة أمس النارية، يرى حجم المأزق السحيق الذي وقع فيه لبنان ونتّجِه إليه كلبنانيين، بكل فئاتنا، ويُتلمّس فعلاً من عظة أمس حجم الخيبة الكبيرة التي تصادفه، ومحاولات عزل وإهمال ما يقوله البطريرك.
هل سقطت مبادرة بكركي أو أُفشِلت؟ ولصالح من؟ هل سقطت المحميّات والمقدسات ليصل الراعي ليدافع عن المؤسسات العسكرية والمالية، وهل بات لبنان في خطر فعلي من أجندة «حزب الله»؟ هل الخلاف على الحكومة فعلاً داخلي أم خارجي؟ هل فعلاً نستطيع فصل لبنان عن أجندة الحزب في ظل موازين القوى السائدة اليوم؟ وهل يأس الراعي؟ أسئلة كثيرة وكلام أكثر يقال، عبّر عنه النائب السابق فارس سعيد.
يقول سعيد لـ»الجمهورية»: «كلام الراعي أمس يحمل انتقاداً لطرفي الأزمة الحكومية، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف، مع المَيل أكثر لانتقاد الرئيس ميشال عون، الذي لم يُلبّ طلب البطريرك الأسبوع الفائت الذي طلبَ فيه من عون المبادرة والارسال بطلب سعد الحريري وإجراء المصالحة. وبالتالي، هناك نوع من يأس في مواقف الراعي، ومحاولة للقول إنه لم يعد هناك من وسيلة يمكن ان تستخدمها بكركي لإنقاذ الوضع القائم».
واعتبر سعيد أنه «من خلال السردية الذي طرحها الراعي أمس في عظته، لامَس كل الجوانب الصحية والادارية والاستشفائية والسياسية والمالية والمصرفية والأمنية والعسكرية، وهي إشارة إضافية من مرجعية وطنية كبيرة ولها قيمة عند اللبنانيين أنّ هناك يأساً من السلطة الحاكمة، ورأس هذه السلطة هو رئيس الجمهورية».
سعيد الذي يؤيّد منطق أنّ مبادرة بكركي فشلت، ليس بسبب نوايا بكركي أو أسلوب عملها، إنما بسبب عدم تجاوب رئيس الجمهورية مع طرح بكركي، يوضح انّ «هناك من حاول أن يقول للبطريرك إن الخلاف على الحكومة داخلي وله علاقة بالاساءة أو بقلة الاحترام نَتجَت عن شخصية معينة تجاه شخصية اخرى، لكن يتبيّن للبطريرك أنّ الموضوع يتجاوز كل هذه التفاصيل، بل هناك إرادة «فوق لبنانية» من أجل عدم تشكيل حكومة اليوم، ورئيس جمهورية لبنان مكلّف بهذه العرقلة. كما انّ رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري لم يقم بما يجب عليه بالاتجاه الصحيح، مُعرباً عن اعتقاده بأنّ «الانتقاد من قبل البطريرك موجّه أكثر باتجاه رئيس الجمهورية».
سعيد يؤكد أنه «متى أراد «حزب الله» تَتشَكّل الحكومة، ولا حكومة اليوم لأنّ الحزب لا يريد أن تتشكّل، وأي قرار يتخذه في هذا السياق بطبيعة الحال لا يكون نابعاً من قرار حرّ لديه، فالحزب هو فصيل من الحرس الثوري الايراني، الذي يجمع أوراقه في المنطقة لاستقبال الإدارة الأميركية الجديدة، في العراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين. وعملية تشكيل الحكومة في لبنان ورقة من الأوراق التي تمتلكها ايران، والتي تسلّمها على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة، وهي ليست مستعدة لتسليمها اليوم، فيما رئيس الجمهورية مكلّف بالعرقلة».
وعَلّق سعيد على مدى قدرة فصل الأزمة اللبنانية عن أجندة «حزب الله» في ظل موازين القوى السائدة، فقال: «إنّ البطريرك حدّد موضوع الحياد بوثيقة صدرت عن مجلس المطارنة الموارنة، ولَخّصها بعبارة ملفتة وهو أن يتوقف أي طرف خارجي على الاستقواء بالخارج. وبالتالي، فإنّ «حزب الله» هو الطرف الداخلي الذي يَستقوي بالخارج، فيما الأطراف الأخرى غير موجودة، في موازاة غياب الحضور العربي عن لبنان بدليل انسحاب سفراء الدول العربية. كما ليس هناك حالة عربية وازنة في البلد، بل حالة إيرانية وازنة بواسطة سلاح الحزب. وبالتالي، المقصود بالحياد أيضاً هو فريق من اللبنانيين الذي يَستقوي بإيران». هذا يعني عملياً أنّ أي فصل يتطلّب مواجهة لهذا الواقع من جميع اللبنانيين، بينما هناك جزء من المسيحيين راضون عن التحالف مع «حزب الله» لأنه يؤمّن لهم امتيازات ونفوذاً سياسياً يتجاوز قدرتهم على التأثير من خلال الدستور واتفاق الطائف، وفريق من المسلمين يعترض على ميشال عون من دون أن يعترض على سلاح «حزب الله».
ورداً على سؤال، يؤكد سعيد أنّ «القطاع المصرفي في لبنان والجيش اللبناني يشكّلان اليوم العائق الأساسي امام انتقال «حزب الله» من الجمهورية الثانية إلى الجمهورية الثالثة وفق شروطه. فإذا ضُرب الجيش، واذا تعرّض القطاع المصرفي لانهيار كامل، سيسود اليأس، وسيضطر اللبنانيون إلى القبول بكل الحلول المطروحة عليهم، ومن ضمنها الحل الذي يَصوغه الحزب ويعمل له منذ العام 2012، وهو انتقال لبنان من الجمهورية الثانية إلى «الثالثة» وفقاً لشروطه والإطاحة بالدستور وباتفاق الطائف».
وجَدّد سعيد التأكيد أنّ «هناك مصلحة مسيحية صافية للمطالبة من موقع مسيحي باستقالة رئيس الجمهورية. فهذا الرئيس المحسوب على الطائفة المارونية تحديداً، وعلى المسيحيين عموماً، هو الرئيس الذي يؤمّن الغطاء الشرعي للسلاح الإيراني في لبنان، وهو الرئيس الذي يؤمّن الغطاء لتنظيم يُعتبر في دوائر القرار العربية والخارجية إرهابياً، فلماذا نتحمّل نحن العواقب؟
ويضيف: «مهما كانت المكتسبات التي حققها عون من خلال تحالفه مع الحزب، فإنّ ثَمن هذا التحالف في المستقبل ضَرره علينا كمسيحيين سيكون أكبر بكثير من المكاسب التي حققها عون».