بات عدّاد الإنهيار يعمل بطريقة أسرع ولا شيء يوقفه وكأنه مكتوب على هذا البلد العيش بتحديات كبيرة تهدّد وجوده وتدفع قسماً كبيراً من شعبه إلى الهجرة، خصوصاً بعد الفشل الأخير لكل الوساطات.
يروي المؤرّخ والباحث جو حتّي في معرض حديثه عن مقاومة الجبّة لغزوة المماليك أنّه في العام 1283 صمد الأهالي بقيادة البطريرك الشهيد دانيال الحدشيتي نحو 37 يوماً، وعندما شعر الجيش المملوكي الجرّار بأنّه غير قادر على إخضاع الموارنة إحتال وأكّد للبطريرك الحدشيتي أنه يريد التفاوض معه وإعطاءه ما يريد.
أراد البطريرك حماية شعبه والإستمرار بعيش الحريّة فقبل بمبدأ التفاوض لكنه قال للمماليك عبارة شهيرة “إنني أُفاوض على كل شيء إلا على أرزتي وصليبي”، وهذه العبارة معناها العميق حسب المؤرّخ حتّي أن البطريرك قائد مسيرة النضال لا يمكنه التخلي عن لبنان وعيش إيمانه المسيحي الحرّ وعدم التحوّل إلى أهل ذمّة.
سقط الحدشيتي شهيداً وسقطت معه الجبّة في ذلك الحين نتيجة إستشهاد البطريرك القائد ومن ثمّ خيانة إبن الصبحى، لكن الموارنة عادوا وبنوا لبنان الجديد الحرّ السيد المستقل المزدهر وتحوّل مع لبنان الكبير إلى سويسرا الشرق.
يقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي اليوم وقفة توازي وقفة البطريرك الأول مار يوحنا مارون والشهيد الحدشيتي وكل البطاركة الذين مرّوا. لماذا الوقفة أصعب، لأن البلد الذي أسسه الموارنة بدأ رحلة الإنهيار، والعدوّ موجود في الداخل ومن أهل البيت، وقسم من المسيحيين تحوّلوا إلى أهل ذمّة ولا يستطيع بعض من نصّبوا أنفسهم قادة عليهم، المفاضلة بين الرئيس الشهيد بشير الجميل والسيد حسن نصرالله أو بين البطريرك الراعي ونصرالله، فأصبح نصرالله بالنسبة اليهم رمزاً يفوق رموزهم الوطنية والمسيحية.
تعترف بكركي بأن المعركة صعبة جداً، ففي السابق وخلال مواجهة الإحتلال السوري بعد عام 1990، كان السواد الأعظم من المسيحيين متفقاً على رأي واحد، وهو ضرورة إنسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان البطريرك مار نصرالله بطرس صفير يقود المسيرة، لكن اليوم فان الخطر الأساسي على الكيان يأتي من سلاح “حزب الله” الذي يأتمر بايران، ويُعتبر جزءاً من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، كذلك فان الخطر الثاني هو الفساد المستشري والمتغلغل في شريان الدولة. وتأتي صعوبة بكركي والبطريرك في مواجهة هذه الأخطار لأنها تُرتكب بأيدٍ داخلية، فالسلاح الإيراني يحمله شباب لبنانيون، والفساد يرتكبه أهل السلطة في البلاد، في حين أن الإحتلال السوري كان خارجياً وكذلك الأمر بالنسبة إلى السلاح الفلسطيني.
وأمام هذه المعطيات، يُصرّ البطريرك الراعي على المطالبة بالحياد ومؤتمر دولي يطرح من خلاله القضية اللبنانية لأن الحلّ بات بحاجة إلى تدخّل أكبر، ولهذه الأسباب يعمل لوبي لبناني داخل الإدارة الأميركية الجديدة للوصول إلى دعم أميركي لمطالب البطريرك الوطنية.
ويوزّع هذا اللوبي نشاطه على أكثر من جبهة، ولا يقتصر على التواصل مع الأميركيين بل إنه يبذل مجهوداً كبيراً في كل عواصم القرار العالمي، لأن مثل هكذا مؤتمر دولي يحتاج إلى رعاية عالمية وليس فقط الإكتفاء بالمواقف الداعمة.
يريد الراعي الوصول بالبلاد إلى برّ الأمان، وهو يحارب الأخطار الداخلية والخارجية ويسعى بكل جهد إلى الحفاظ على وجه لبنان التاريخي والحضاري، لكنه لا يساوم على أرزة لبنان والعيش بحرية وكرامة ومحاربة تجّار الهيكل وكل من يريد السيطرة على هذا البلد وتطويعه، وكأنه يردد مع البطريرك الحدشيتي “إلا أرزتي وصليبي”.