IMLebanon

هل دقت ساعة الحقيقة لاستعادة سيادة لبنان؟

 

توقعت المؤرخة البريطانية مارغريت ماكميلان في كتابها «صانعو السلام» حول مؤتمر باريس عام 1919 بعد اقتطاع أجزاء من سوريا وضمها إلى جبل لبنان تمهيداً لاعلان دولة لبنان الكبير نزولاً عند مطلب الموارنة بقيادة البطريرك الحويّك، بأن سوريا لن تنسى ما فقدته من أراضيها، وبأن الوطن الجديد سيبقى فاقداً للتوازن والاستقرار نتيجة التوترات الدينية والاثنية العميقة الجذور بين مختلف مكوناته الاجتماعية. واللافت كانت الأدوار البناءة التي لعبها البطاركة الموارنة في نيل لبنان لاستقلاله، ولاحقاً في كل المحطات التي واجه فيها البلد «أزمة مصيرية» كادت ان تؤدي إلى تفككه أو زواله.

 

واليوم وفي ظل الازمة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية المعقدة، ينبري البطريرك مار بشارة بطرس الراعي للسير على خطى اسلافه، من أجل إطلاق صرخة وطنية مدوّية، داعياً رئيس الجمهورية إلى «فك الحصار عن الشرعية والقرار الوطني»، وذلك بعد أن اقتنع بأن هناك قوى داخلية مرتهنة للخارج، باتت تهيمن على القرار الوطني، وتسيطر على معظم مفاصل الدولة الأساسية، وبما يعطل كل المبادرات الإصلاحية بدءاً من تشكيل حكومة مستقلين، ووصولاً إلى وضع رؤية إصلاحية، تؤمن خلاص لبنان من انهيار اقتصادي ومالي مخيف.

 

يبدو بوضوح، وبعد الاسبوع الثاني لاطلاق هذه الدعوة من قبل البطريرك، بانها لم تأت نتيجة صدمة تسبب فيها حادث عابر، بل جاءت لتعبّر عن تقييم واقعي للتهديدات والمخاطر الكبيرة التي يواجهها لبنان جراء جرّه لخدمة مشروع إيراني، يعرف بجبهة «الممانعة والمقاومة». كما يبدو، بأن دعوة البطريرك بفك الحصار عن الشرعية قد لقيت تجاوباً وطنياً اسلامياً ومسيحياً واسعاً، بحيث يؤمل أن تتحوّل في القريب العاجل إلى مساحة مشتركة للقاء سياسي واسع، يُشكّل حركة وطنية سيادية تنادي بتحييد لبنان وباستعادة القرار السيادي الحر والكامل. تأتي دعوة البطريرك الراعي في وقت يتسم فيه الوضع بأعلـى درجات الخطورة والحراجة، وبما يذكرنا بمحطتين تاريخيتين: الأولى، بيان بكركي الذي صدر في أيلول عام 2000، والذي شكل خطوة أساسية على طريق اخراج الجيش السوري من لبنان، والثانية، التوقيع على إعلان بعبدا لتحييد لبنان، والذي جاء نتيجة حوار وطني قاده الرئيس ميشال سليمان في عهده، والذي تحوّل إلى وثيقة دولية معتمدة من قبل الامم المتحدة والجامعة العربية..

 

توجه البطريرك الراعي في دعوته لاستعادة القرار الوطني السيادي بشكل مباشر إلى رئيس الجمهورية، كمسؤول أول عن حماية الوطن، وانتشاله من أزمة سياسية واقتصادية هي الأسوأ في تاريخه، حيث بدأ الناس بمواجهة الجوع وخطر الموت. لقد شعر البطريرك بأن عليه التحرّك قبل فوات الأوان، وبعد تيقنه بأن الأوضاع باتت ذاهبة وبسرعة نحو الخراب ونقطة اللارجوع، في ظل تلكؤ الحكومة والعهد عن القيام بالاصلاحات المطلوبة على مستوى إدارة الشؤون العامة والتصحيح المالي، وذلك رغم النصائح والمطالبات الحثيثة المتكررة والصادرة عن أصدقاء وأشقاء بالاضافة إلى المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.

 

في رأينا أن ما دفع البطريرك الراعي لرفع الصوت مطالباً الرئيس عون بفك الحصار عن الشرعية، هو شعوره بخطر اختلال موازين القوى الداخلية، وغلبة فريق سياسي وهيمنته على القرار الوطني، مع محاولاته المكشوفة والمتواصلة لجر لبنان إلى عين العاصفة في النزاع الواسع والخطير والمتفجر بين اميركا وحلفائها الاقليميين وبين إيران. وكانت دعوة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله للتخلي عن العلاقات التاريخية التي تربط لبنان بالغرب، والتوجه نحو الشرق، بمثابة «الشعرة التي قصمت ظهر البعير»، حيث ستؤدي حتماً إلى عزل لبنان بشكل كامل عربياً ودولياً، وبالتالي اخضاعه لنظام العقوبات التي نصّ عليها قانون «قيصر». ويبدو بأن تحرك البطريرك الراعي قد تزامن مع المعلومات التي وصلته عن النقاشات الجارية بين ممثلين عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي داخل الكونغرس حول احتمال فرض عقوبات أميركية على لبنان، بعد هيمنة حزب الله شبه الكاملة علــى القرار الوطني من خلال حكومة حسان دياب المتهمة بأنها حكومة حزب الله باعتراف جهات داخلية وخارجية عديدة.

 

قرّر البطريرك الراعي التخلي عن حرصه على الحفاظ على مسلّمة دعم موقع رئاسة الجمهورية التي دأب على اعتمادها منذ بداية هذا العهد، وذلك بعدما تيقن بأن الجمهورية باتت تدور في حلقة مفرغة في تعاملها مع خيارات وسياسات حزب الله، وبأنها باتت عاجزة بشكل كلي عن ضبط النتائج الخطيرة المترتبة على هذه السياسات، وبأنه لا بدّ من التخلي عن سلوكية شراء الوقت بانتظار حصول تطورات إقليمية ودولية مؤاتية للتعامل مع ثنائية السلاح، تمهيداً لاستعادة سيادة الدولة. يُؤكّد البطريرك في تصريحاته اللاحقة على انه قد اتخذ قراره بالدعوة لوقف ومواجهة قرار مصادرة إرادة اللبنانيين من قبل الحزب أو أي جماعات أخرى تدور في فلكه، وتجييرها لخدمة مشاريع أو دول خارجية.

 

لا يكفي أن يُطلق البطريرك هذه الدعوة المدويّة لاستعادة القرار الوطني من أيادي مغتصبيه، ولا بدّ من استثمار الصدمة التي احدثتها الدعوة من قبل أكثرية اللبنانيين والقوى السياسية المؤمنة بالسيادة، وذلك من خلال التداعي لتشكيل جبهة وطنية واسعة، على ان تكون أولى مهامها وضع وثيقة وطنية جديدة، تكون قادرة على التصدّي للتهديدات والمخاطر التي يواجهها لبنان في ظل العواصف المدمرة التي تعصف في منطقة الشرق الأوسط. ولا بدّ ان تنص هذه الوثيقة في بندها الأوّل على ضرورة تحييد لبنان وإحياء إعلان بعبدا، وان ترسم خارطة طريق واضحة لإخراج لبنان من أزمته السياسية والاقتصادية والمالية الراهنة، مع التأكيد على التزام لبنان بتنفيذ جميع بنود القرارات الدولية الخاصة، وبالتالي حل معضلة السلاح غير الشرعي، وتحرير مزارع شبعا بالطرق الديبلوماسية، وترسيم كل الحدود اللبنانية البرية والبحرية، بما فيها الحدود مع سوريا، واعتماد سياسة دفاعية واضحة وفاعلة، وتشريع قانون انتخابي حديث، مع الدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، تـؤسس لانتخابات رئاسية وفق نص الدستور، ووفق اعتبارات مصالح لبنان العليا، واستعادة الدولة لدورها ووظائفها وفق ما تنص عليه المواد الدستورية والقوانين.

 

هبّت البطريركية المارونية للعب دورها التاريخي في الحفاظ على لبنان، وباتت الآن الكرة في ملعب رئاسة الجمهورية والقوى السياسية والوطنية الحيّة، والتي عليها المبادرة لتشكيل جبهة واسعة للانقاذ الوطني، مع ضرورة الدعوة لعقد مؤتمر حوار وطني يخرج بالوثيقة الوطنية اللازمة، والتي تتضمن خارطة طريق واضحة لعمل إصلاحي واسع، يعهد به لحكومة مستقلين، تحل مكان حكومة الاشباح واللاقرار الراهنة.

 

ويبقى السؤال الأساسي حول ما نشهده من تحركات سياسية وشعبية باتجاه المقر في الديمان: هل دقت ساعة الحقيقة لكي تستعيد البطريركية المارونية دورها التاريخي، والذي بدأته من مؤتمر السلام في باريس عام 1919، والذي جددته في محطات متعددة سعياً لاستقلال لبنان وتحصين استقلاله واستعادة سيادته؟