IMLebanon

صاحب الغبطة: يمثلني… لا يمثلني؟

 

بعد ذات عظة من عظاته الحكيمة والبليغة والصريحة والجريئة والصادقة، كتبت على صفحتي الفيسبوكية، البطرك الراعي يمثلني في قيادة الثورة. قامت قيامة من لا يعرفون من العلمانية غير العداء للدين ولرجال الدين. حاولت أن أقنعهم بأن ما تنامى إلى أسماعنا عن العلمانية هو جملة من المفاهيم المشوهة، التي ساهم في الترويج لها على السواء خريجو الحوزات والأديرة والمدرسة السوفياتية، وأن العلمانية هي صنو الديمقراطية والدولة المدنية والاعتراف بالآخر، وأنها ابتكار رائع قدمته لنا الثورة الفرنسية لا لتلغي الدين وتختم بالشمع الأحمر على أبواب بيوت الدين أو تحولها إلى متاحف أو لتستبدل هويتها، على غرار ما حصل مرة في قصر الحمراء في إسبانيا وأكثر من مرة في أياصوفيا في اسطنبول، وتمنع رجال الدين من التدخل في السياسة على طريقة علمانيي فرنسا، بل للتخلص من استبداد كانت تمارسه الكنيسة باسم الدين، وللتخلص بالتالي من كل أنواع الاستبداد الأخرى، ولا سيما منها السياسي، على غرار الذي يمنى به اللبنانيون على أيدي منظومة الفساد والإفساد والاستبداد.

 

كان من الممكن أن أكرر عبارة الاعتزاز بدور غبطته غداة كل عظة من عظاته منذ انطلاقة الثورة في 17 تشرين، وأن أضيف اعتزازاً مضاعفاً بدور رجال الدين بعد أن استمعت إلى صرخة مدوية أطلقها سيادة مطران بيروت بولس عبد الساتر في وجه منظومة الاستبداد، بمناسبة عيد مار مارون، أدان فيها من” لم يذرفوا دمعة أمام البيوت المهدّمة والأجساد المقطعة، ولم يحرّكوا إِصبعاً ليكشفوا حقيقة ما جرى؟ وأدان انقسام اللبنانيين “بسبب سياسيين يستغلون خوفنا وديننا ومعاناتنا ليستمروا حيث هم؟”، ودعانا فيها إلى “أن ننبذ ثقافة الفساد ونتوقف عن محاولة ابتلاع لبنان لصالح طائفتنا أو حزبنا أو مرجعنا في الداخل أو الخارج، وأن نحمي بعضنا بعضاً من بطش وظلم الخارج”.

 

لم أفعل ذلك لا اقتناعاً بحجج العلمانيين غير المقنعة، ولا لأنني بدلت رأيي بالدور الرائد الذي يمكن أن يلعبه رجال الدين المتنورون من أمثال البطرك الراعي والمطران عبد الساتر، ورجال دين مسلمون وهم كثر من بينهم المرحومان محمد حسن الأمين وهاني فحص وكثيرون غيرهما من الأحياء، بل لأن في العقل الغيبي عطلاً بنيوياً قد يتسبب في إلغاء أي فضيلة من فضائل الدين وأي إنجاز دنيوي من إنجازات رجاله. هذا ما حصل في آخر عظات صاحب الغبطة حين رأى أنه “لا شراكة من غير حياد”. رأى البعض في هذا الكلام ما يشبه التهديد بفض شراكة هي بين المسلمين والمسيحيين وما يدعم أفكاراً بائسة عن التقسيم والفدرلة. يكمن عطل التفكير الديني في النظر إلى لبنان لا كوطن بل كشركة، وهي العبارة (شركة ومحبة) التي وردت كشعار في خطاب العرش البطريركي، وسبق لي أن أشرت إلى خطورة استخدامها.

 

الشركة والشراكة والعيش المشترك لا تبني وطناً. الشركة تجارة وأسهم. تكون مساهمة أو مغفلة أو محدودة المسؤولية وهي أرباح وخسائر ومحاسبة عمومية. أما الوطن فهو رسالة بحسب تعبير صاحب القداسة، ويبنى بالدستور وسيادة القانون على حدوده وداخل حدوده. والوطن ثلاثية واحدة وحيدة لا ثلاثية سواها، وفيها ينطوي التعريف القانوني للوطن، ألا هي الأرض والشعب والسيادة. فلا ثلاثية “حزب الله”، شعب وجيش ومقاومة، التي يغيب عنها الدستور والقانون، ولا ثلاثية 14 آذار، حرية سيادة استقلال التي يغيب عنها الشعب، ولا ثلاثية الشعب والجيش والقضاء التي ترفع في وجه المحبطين.

 

الشركة والشراكة تبرر المحاصصة ولا تنفيها، بل هي تتعارض مع خطاب الصرح البطريركي أمام جمهور من اللبنانيين لبوا دعوته لا بصفتهم شركاء في شركة بل بصفتهم مواطنين في وطن، وعادوا مزودين ببرنامج وطني مطابق لبرنامج الثورة قال لهم فيه: “لا تَسكُتوا عن تعدّدِ الولاءات، لا تَسكُتوا عن الفساد، لا تسكتوا عن سلب أموالكم، لا تَسكُتوا عن الحدودِ السائبة، لا تَسكُتوا عن خرقِ أجوائِنا، لا تَسكُتوا عن فشلِ الطبقةِ السياسيّة، لا تَسكُتوا عن الخِياراتِ الخاطئة والانحياز، لا تَسكُتوا عن فوضى التحقيقِ في جريمةِ المرفأ، لا تَسكُتوا عن تسييسِ القضاء، لا تَسكُتوا عن السلاحِ غيرِ الشرعيِّ وغيرِ اللبنانيّ، لا تَسكُتوا عن سَجنِ الأبرياءِ وإطلاقِ المذنِبين، لا تَسكُتوا عن التوطين الفلسطيني ودمج النازحين، لا تَسكُتوا عن مصادرة القرار الوطني، لا تَسكتوا عن الانقلابِ على الدولةِ والنظام، لا تَسكُتوا عن عدمِ تأليفِ حكومة، لا تَسكُتوا على عدمِ إجراءِ الإصلاحات”.

 

واو الجماعة في هذا الخطاب لا تمثل مالكي أسهمٍ في شركة، بل عينة من شعب الثورة الذي انتفض على ممثلي الشركة والشراكة ممن تحاصصوا الوطن باسم الطائفية فتقاسموا وقسّموا الأرض والشعب وانتهكوا الدستور.