هذه المرّة، لم يحذّر البطريرك الماروني من مخاطر الفراغات والفوضى كما فعل دائماً، بل ذهب إلى ما هو أبعد. فتحدّث عن «مخطط» مقصود لإفراغ المواقع المسيحية بهدف «انتزاعها». فهل يواجه لبنان خطر تبديل هويته، فيما العالم منشغل بأزمات أخرى؟
في جولته الأخيرة في المتن الأعلى، اختصَر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط صورة الوضع اللبناني بدقة، إذ قال: «لا أحد في العالم مهتمّ بنا حالياً. لسنا موجودين على الخريطة. العالم كله في فوضى بسبب حرب أوكرانيا، ووحده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتعاطَف معنا».
وهذا الاستنتاج يلتقي مع ما يرشح من معلومات في عدد من الأوساط، ومفادها أن أولوية القوى الدولية حالياً هو أوكرانيا وتداعيات الحرب على أوروبا، والنزاع بين الغرب وتحالف روسيا – إيران، واحتمالات تَوغُّل الصين. ولذلك، ما يهمّ القوى الدولية الكبرى في الشرق الأوسط هو ضمان مستوى معين من الاستقرار، بحيث لا تتعرّض للخطر المصالح الاستراتيجية الأربعة للغربيين، من بوابة الشرق الأوسط:
1 – مصادر الطاقة، ولا سيما منها الغاز. ولذلك، كان الضغط لإنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وتأمين تدفّق الغاز بأمان نحو أوروبا الغربية.
2 – أمن إسرائيل، وتجنّب التوتر على الحدود الشمالية. وقد تحقق ذلك أيضاً في اتفاق الترسيم البحري الذي ساهمَ في وضع ضوابط واضحة للوضع الحدودي. واستطراداً ضمان أمن قوات «اليونيفيل» وقواعد عملها في تلك المنطقة.
3 – وضع حدّ لتمدّد إيران في الشرق الأوسط، وتنظيم العلاقة مع روسيا، ومنع تسلّل الصين التي أصبحت التحدّي الاستراتيجي الأكبر للغرب، على رغم من أنّ المواجهة القاسية حالياً تدور مع روسيا.
4 – أمن أوروبا نفسها، خصوصاً لجهة تدفّق المهاجرين غير الشرعيين.
إذاً، مطلوب من لبنان حالياً أن يكون مجرد مساحة محصورة لا تخرج منها الأزمات إلى العالم. فإذا بقيت الأزمات ضمن حدوده، ولم تهدّد أحداً خارجه، فلا مشكلة بذلك. وهذه البراغماتية الدولية في التعاطي مع لبنان مؤذية جداً له، لأنها تعني أن أحداً لن يتدخل لحل الأزمات الخانقة التي يعيشها، وأن عواقب هذه الأزمات قد تكون كارثية عليه.
ويُسمع في بعض الأوساط أنّ اللبنانيين هم الذين أوصَلوا أنفسهم إلى هذا الوضع. والأمر لا يتعلق بالحكومة والسياسيين فحسب، بل أيضاً بالشعب الذي أوقف انتفاضته وجَدّد لهم الولاية في الانتخابات النيابية. والمقولة الشائعة هي أنّ خصوصية لبنان تفرض على الجميع المُدارَاة والمسايرة دائماً لئلّا يدخلوا في صدامات أهلية. ولهذا السبب، لم تعد القوى الدولية متحمسة للتدخل والمراهنة على انتفاضة جديدة.
هذا الإهمال للبنان يمكن أن يُقرأ سلباً وإيجاباً في آن معاً. فصحيح أن تجميد التداخلات الخارجية يُلقي بالمسؤولية على اللبنانيين أنفسهم ليوجِدوا التسويات المناسبة بدل الاتّكال على الآخرين، إلا أنّ وَقف بعض القوى الدولية والإقليمية تدخّلها في لبنان لا يمنع قوى أخرى من استمرار التدخل، وعلى العكس، يصبح تدخلها أكثر فاعلية بحيث تتحكّم بمجريات القرار.
وفي عبارة أخرى، إنّ إهمال الولايات المتحدة والعرب للبنان، ويأسهم من مساعدته، من شأنه أن يمنح إيران هامش تصرّف أوسع. وهذا تحديداً ما يدفع الفرنسيين إلى الاستنفار وحدهم، من أجل تسويةٍ ما في لبنان.
لقد كان الفرنسيون في ما مضى يعتقدون أن نزاعات القوى الدولية والإقليمية، لا سيما منها الولايات المتحدة وإيران، على أرض لبنان ستقوده إلى الخراب. أما اليوم فبات هاجسهم مَنع زوال البلد نتيجة النسيان أو الإهمال المتعمّد.
لم يتوقف ماكرون عن المحاولة منذ زيارتَيه بعد انفجار المرفأ، صيف 2020. لكن المشكلة هي أن اللبنانيين أنفسهم ليسوا مكترثين بالمساعدة التي تقدمها فرنسا، ولا يتوقفون عند تحذيراتها المتكرّرة من مخاطر الفوضى وتفكّك الدولة التي بات منسوبها مرتفعاً جداً، بسبب الانهيارات المتلاحقة:
سياسياً، فراغ رئاسي وخلل حكومي وأزمات آتية ذات طابع دستوري وميثاقي. ومالياً واقتصادياً، انهيارات واستحقاقات وشيكة، في ظل وضع قضائي شديد الإرباك.
لكن الهاجس الأكبر هو منع الانزلاق نحو التوتر الطائفي الذي يصبح أشد خطراً عندما ينزل الجائعون إلى الشارع، حيث الطوائف يخاف بعضُها من بعض. ويشعر المسيحيون بأنهم الحلقة الأضعف، لافتقادهم الغطاء الإقليمي الذي يتوافَر للشيعة أو للسنة.
وهذا ما دفع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى إطلاق تحذيره الأخير، والقول إنّ ما يجري ليس مصادفة، بل نتيجة لتخطيط. وتحدث عن «مخطط قيد التحضير لخلق فراغ في المناصب المارونية والمسيحية، والقضائية والمالية والعسكرية والدبلوماسية، بعد الشغور الرئاسي». ولاحَظ «تصويباً على عدد من المناصب المارونية الأساسية لينتزعوها بالأمر الواقع، أو بفبركات قضائية، أو باجتهادات قانونية «غب الطلب»، أو بتشويه سمعة المسؤول».
ومن المهم جداً التوقف عند تزامن إطلاق هذا الموقف مع وصول الوفود القضائية الأوروبية، والفرنسيون في مقدمها، لمتابعة ملفّين: قضائي – مالي يتعلق بمصرف لبنان والنظام المصرفي، وقضائي – أمني هو انفجار المرفأ.
ليس واضحاً إذا كان البطريرك يرتكز فعلاً إلى معلومات محدّدة وموثقة، أو إلى أدلّة تبرّر الشكوك، وقد قرّر البناء عليها لقرع ناقوس الخطر والحؤول دون الوصول إلى الأسوأ. لكن تحذيرات البطريرك ترتدي طابع الخطورة، خصوصاً عندما تتقاطع مع تقديرات مفادها أن بعض القوى الدولية مستعدة لدعم أي كان في السلطة، لمجرد أن يلتزم الثوابت الاستراتيجية الأربعة التي يبحث عنها الغربيون في لبنان والشرق الأوسط. وهذا الأمر يخشاه الفرنسيون، لأنه سيعني انتهاء لبنان الحالي.
في أي حال، لم يوضح البطريرك مَن «هم» الذي يخططون فعلاً لـ»ينتزعوا» المواقع المسيحية؟ لكن الواضح هو وجود اقتناع لدى بكركي بأنّ المكوِّن المسيحي سيكون الخاسر الأكبر، نتيجة موجة الفراغات والفوضى المنتظرة في المرحلة المقبلة.