أوّل ما حدّثنا به البطريرك بشارة الراعي بالأمس ومن مطار رفيق الحريري الدولي فور عودته إلى لبنان هو “الجُرْصة” فقال: “المهمّ أن يُفتح الباب و”جرصة” أمام العالم كلّه أن يكون هناك فراغاً في السدّة الرئاسية”، وشكرَ البطريرك الربّ “أنّ هناك مبادرة لها قيمة وجدّية، والباب فتح”.
للمناسبة، وعلى ذكر الرئيس الشهيد رفيق الحريري، رحمات الله عليه، أعادت مواقع التواصل الاجتماعي صباح الأمس التداول بتغريدة للزميل فارس خشّان، والتغريدة تحمل تاريخ 27 آذار العام 2014 وتقول: «أتذكّر، الليلة، سؤالاً وجّهته لكبير من بلادي عن إمكان وصول سليمان فرنجيّة إلى الرّئاسة. أجابني يومها رفيق الحريري: مشكلتُهُ أنّنا حينها سنخجل ببلدنا»… فعن أيّ جرصة حدّثنا غبطة البطريرك بالأمس؟!
لم توفّر صحف إيران بالأمس المملكة العربيّة السعوديّة فروّجت على لسان من ادّعت أنّهم «قادة» بارزون في تيّار المستقبل بأنّ مُرَشِّحَ النائب سليمان فرنجيّة للرئاسة هو وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان، وادّعت أن الرئيس سعد الحريري حمل الاقتراح له فنقله إلى والده خادم الحرمين الشرفين الملك سلمان، فمنح «بركته» للترشيح، الأمر الذي استدعى ردّاً واضحاً للسفير السعودي علي عواض العسيري الذي نفى الكلام بديبلوماسيّة فقال: «السعودية لم تبادر بتسمية رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، لافتاً إلى أنها باركت هذه الخطوة، برغبتها في أن يكون القرار للمسيحيين في هذا الموضوع».
إلى هنا، صدّق الجميع بالأمس أنّ فكرة ترشيح فرنجيّة خرجت «انبعاثاتها الجهنميّة» من عقل وليد جنبلاط وهو المعروف بتشقلباته السياسيّة وأنّه «كلّ يوم بعقل»، ربّما كان على عينيْه غشاوة في تلك اللحظة، أو أنّها كانت ساعة تخلّي، والأمر لا هذا ولا ذاك، الانبعاث الشيطانيّ في فكرة الترشيح أنّها ستدمّر البيت المسيحي اللبناني على جميع أركانه، جنبلاط لا يُريد قانون انتخابات إلا قانون الستين الذي ورّطنا فيه ميشال عون عندما تمسّك به وفرضه في اتفاق الدوحة مع تعديلات في بيروت تحفظ مكانة كتلة الرئيس سعد الحريري، وبالطبع ضيّع السيّاسيّون كالعادة سنوات الرئاسة الستّ للرئيس العماد ميشال سليمان ولم يضعوا قانون انتخابات بل أغرقونا بقوانين «كباش» كان آخرها قانون إيلي الفرزلي، أو ما اصطلح على تسميته «القانون الأرثوذكسي» والذي دفع يومها دفعاً بسمير جعجع لتأييده، لأنّ الذين لا يريدون هذا القانون أرادوا أن يعطّله جعجع لحسابهم ضاربين عرض الحائط بوزن الرجل ومسؤولياته تجاه مسيحيي لبنان، ولكن عندما رفع المعترضون صوتهم سارع الرئيس نبيه بري لسحب القانون من التداول معتبراً أنّه يضرب مصالح طائفة لبنانيّة.
المضحك ـ المبكي في ترشيح النائب سليمان فرنجيّة أنّه ضرورة فقط لأحد أمريْن؛ إما للإبقاء على قانون الستين وهو أمرٌ شبه مستحيل مسيحياً، وإما لإقرار قانون انتخابي تقبل به كلّ الطوائف ويحافظ على «قياس» زعاماتها، فهل سمع أحدٌ بدولة في العالم تنتخب رئيساً لإقرار قانون إنتخابي، وحتى وإن كان لا تتوافر فيه مواصفات الرئيس الذي يمثّل وطن، إلا إذا كانت صفة «المارونيّة» فقط هي الميزة، عندها علينا أن نقول ممّا يشكو الموارنة الآخرون؟! بربّكم ممّا يشكو النائب بطرس حرب أو العماد جان قهوجي؟! وأيّ حديث هذا عن “الضمانات” أو “برنامج” فرنجيّة للرئاسة، وما هي المواقف التي يطالبونه بها، فالرّجل تربّى في حضن السّوري الذي جاء به نائباً ثم جعله وزيراً ولو قيّد لجيش الاحتلال السوري البقاء في لبنان لكان رئيساً بعد إميل لحود وكنّا نعيش سنوات تمديده الثاني، فأيّ ضمانات يريدوننا أن نصدّقها؟!
يُشبه حالنا اليوم تلك المقولة التي لطالما تردّدت كلّما ذكر وعد آرثر جيمس بلفور لليهود بمنحهم فلسطين وطناً قومياً، حتى صارت حكمة وباتت تضرب مثلاً: «أعطى من لا يملك لمن لا يستحقّ»!! “التسوية” لن تمرّ، وليس بسبب رفض كثير من اللبنانيين لها، بل لأنّ النائب ميشال عون سيمنعها من المرور وموقفه سيطيح بها، والكلمة الفصل في هذه التسوية هي لحزب الله لا لأحد آخر، ومن سخرية اللحظة اللبنانيّة، أن تُطرح أسئلة إجاباتها ليست حتى عند مرشح المبادرة غير الرسمي، بل إجاباتها عند تجربتنا مع حزب الله، وانقلابه على كلّ مواثيقه وتعهداته واتفاقاته، فكيف يُؤمن جانب “أهل التقيّة”؟!
قديماً قال خاتمة الأدباء في الأندلس أبو البقاء الرندي: لكل شيء اذا ما تمّ نقصانُ وهي في رثاء الأندلس «هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ/ مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ».