أيّ دور لرأس الكنيسة في اختيار رأس الدولة؟
في 15 آذار 2011 صار المطران بشارة الراعي البطريرك السابع والسبعين للموارنة، بعد ثلاث عشرة جولة اقتراع بدأت في 11 آذار وانتهت بخروج الدخان الأبيض إيذاناً بحصول الراعي على العدد الأكبر من الأصوات ليخلف البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي امتدت ولايته الحبرية منذ نيسان 1986. كما صفير كان على الراعي أن يواجه خطر تغيير الهوية اللبنانية بما يعنيه من خطر على المسيحيين خصوصاً بما يتعلّق بالفراغ في رئاسة الجمهورية، التي ارتبطت في معظم المراحل بمسؤولية رأس الكنيسة في حماية موقع رئاسة الدولة.
في كل الأحوال لم تكن خلافة البطريرك صفير مسألة بسيطة ذلك أنّ ولايته شهدت تحوّلات كبيرة كان له فيها دور كبير لم يشذّ عنه مبدئياً كل البطاركة الموارنة الذين شهدت ولاياتهم تحولات مصيرية، حافظوا خلالها على الخط التاريخي الذي تمثّله بكركي، والذي لا يمكن لأيّ بطريرك الخروج منه وهو ما يجهد الراعي من أجل الحفاظ عليه.
إمتدّت ولاية صفير من 19 نيسان 1986 حتى 15 آذار 2011. 25 عاماً أمضاها في بكركي بطريركاً أضافها إلى 36 عاماً كان بدأها منذ العام 1950 في الصرح البطريركي كاهناً ثم مطراناً منذ العام 1960، مرافقاً البطاركة أنطون عريضة وبولس المعوشي وانطونيوس خريش. وكما صفير كان الراعي تدرج في البطريركية إلى جانبه نائباً بطريركياً قبل أن يُعيَّن رئيساً لأساقفة جبيل في العام 1990. بعد شهرين على اعتلائه عرش البطريركية، سام صفير الراهب بشارة الراعي الآتي من الرهبنة المريمية مطراناً في 5 تموز 1986 ليبدأ منذ ذلك التاريخ السير على خط العودة إلى بكركي بطريركاً.
في 25 شباط الماضي أكمل البطريرك الراعي عامه الثالث والثمانين. كان عمره 71 عاماً عندما انتُخب بطريركاً بينما كان عمر صفير 66 عاماً. بقي صفير في البطريركية حتى عمر الـ91 وعندما بدأ يشعر أنّ قوته الجسدية والعقلية قد تخونه اختار أن يتخلّى عن المهمة إلى بطريرك جديد. حكي كثيراً عن مؤامرات تعرّض لها وعن عمليات دسّ لدى الكرسي الرسولي، ولكن قرار الإستقالة كان ملك صفير وحده. لقد فاتح قبل أشهر بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر بهذه الرغبة وقد أتت اللحظة المناسبة وفقاً لاختياره.
لم يكن المطران بشارة الراعي بعيداً عن حبرية البطريرك صفير. كان شريكاً له في معظم المحطّات التاريخية وشهد إلى جانبه في بكركي ثم من موقعه في مطرانية جبيل عمليات التجنّي عليه. وكان شاهداً على صلابته وإيمانه وعلى حياته البسيطة وعقله الكبير. وهو بحكم هذه المرافقة لم يكن أمامه إلّا أن يكون على مستوى السقف الذي وضعه صفير للمواقف البطريركية التي لا يمكن أن تخرج عن خط بكركي التاريخي الذي مثّله البطاركة السابقون منذ البطريرك الأول يوحنا مارون. وعلى الأقل منذ البطريرك الياس الحويك الذي رافق ولادة دولة لبنان الكبير مروراً بالبطاركة عريضة والمعوشي وخريش. ولكل من هؤلاء تجارب وسجل حافل بالمواقف خصوصاً في ما يتعلق بفكرة قيام دولة لبنان الكبير وبالعلاقة بين الموقع الديني الأول للموارنة وبين الموقع الماروني الأول في رئاسة الدولة.
على خطى سلفه
وصل صفير إلى سدة البطريركية بعد أزمة عاشتها الكنيسة المارونية في بيتها الداخلي، وفي العلاقة مع الفاتيكان، بينما كان المسيحيون في لبنان يواجهون خطر الحرب والخلافات في ما بينهم، وذلك بعد استقالة البطريرك خريش وتعيين البابا يوحنا بولس الثاني المطران ابراهيم الحلو مدبِّراً بطريركياً في 27 تشرين الثاني 1985. ترك هذا القرار ردود فعل سلبية داخل الكنيسة المارونية وكان على المطران صفير أن يحمل ملفّ الإعتراض إلى روما ليطلب انتخاب بطريرك جديد خلال لقائه البابا. دخل إليه مطراناً وعاد إلى لبنان بطريركاً منتخباً في 19 نيسان 1986. لم يكن انتخابه سهلاً بفعل المخاطر السياسية والعسكرية التي كانت تهدّد الوجود المسيحي في لبنان، ولم يكن اسمه مطروحاً في البداية، ولكنّه في النتجية صار البطريرك السادس والسبعين للموارنة ليفاجئ العالم بقوة حضوره الهادئ وصمته المعبر وعظاته النارية وصلابته التي لا تلين في المسائل المتعلقة بالكيان اللبناني والهوية اللبنانية والحضور المسيحي في لبنان وفي الشرق. صار صفير رمزاً للسيادة الجديدة وللإستقلال الثاني وللوقوف في وجه الوصاية السورية على لبنان، وكان له الدور الكبير في الوصول إلى اتفاق الطائف ثم في المواجهة مع الذين عملوا على الإنقلاب عليه، وكان لهذا الخط الذي اختاره أن ينتصر في العام 2005 بخروج الجيش السوري من لبنان.
عاش المطران بشارة الراعي لحظات الخوف ولحظات الصمود إلى جانب البطريرك صفير. كان شاهداً على شموخه وعلى قوته كما كان شاهداً على التعرّض له وإهانته كما حصل على يد العماد ميشال عون وأنصاره، بعد التعدي عليه في بكركي في 5 تشرين الثاني 1989 وانتقاله إلى المقرّ الصيفي للبطريركية المارونية في الديمان. كما كان شاهداً أيضاً على الحملات والإهانات التي تعرض لها صفير وشنّها عليه سياسيون موارنة بطلب من النظام السوري وعادوا وندموا عليها لاحقاً.
رافق الراعي صفير أيضاً في التحضير للسينودس من أجل لبنان في العام 1994 وفي استقبال البابا يوحنا بولس الثاني في أيار 1997. وكان عاش إلى جانبه أزمة رئاسة 1988 ورئاسة حكومة العماد ميشال عون وتجربة الإجتماعات المسيحية الموسعة في بكركي ومسألة تقديم اقتراحات بأسماء مرشحة لرئاسة الجمهورية، وهي تجربة انتهت إلى الفشل وإلى الفراغ. وهو اليوم من موقعه البطريركي يواجه تجربة مماثلة.
على خط الرئاسة
منذ انتخابه بطريركاً عمل الراعي على خطّ اختيار رئيس الجمهورية. بعد عامين ونصف كان يواجه مثل صفير خطر الفراغ الناجم عن منع انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. ومثله أيضاً كان عليه أن يواجه خطر ما يمثّله هذا الفراغ الذي تحكّم به «حزب الله» بحجّة أنّه لا يؤمّن نصاب جلسات الإنتخاب إلا لمرشّح وحيد هو العماد ميشال عون. وهي المرة الثانية التي يمنع فيها انتخاب رئيس إلا لمرشّحه وهو هذه المرة رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية. لمرتين كرر التاريخ نفسه مع المرشّح الرئاسي العماد ميشال عون. المرة الأولى كانت المواجهة مع النظام السوري، والثانية مع «حزب الله» الذي يمارس وصايته على الدولة والسلطة، والثالثة أيضاً مع «الحزب» الذي يبدِّل الأسماء ولا يبدّل الوصاية.
حاول الراعي أن يتوّج عهده البطريركي بجمع الأقطاب الموارنة الأربعة قبل استحقاق رئاسة 2014 وتمكن من جمع العماد ميشال عون والرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع والوزير السابق سليمان فرنجية. كان مشهد التقاء الأربعة تحت سقف بكركي جميلاً في الشكل، ولكنّه لم يرتقِ إلى المضمون. ذلك أنه لم يضع خطة عمل يمكن أن ينضوي تحت سقفها الأربعة، وبقيت لكل منهم حساباته المتعلقة برئاسة الجمهورية، خصوصاً أن عون كان أعلن منذ 6 شباط 2006 تحالفه مع «حزب الله» الذي نصّب نفسه وصيّاً على الجمهورية ورئاسة الجمهورية، وأنّ سليمان فرنجية كان في الخط السوري وبقي يعلن أنّه ضمن هذا الخط وأحد أركانه. وهو لذلك التقى مرحلياً مع عون وانضمّ إلى تكتله النيابي.
بينما كان رئيس حزب «القوات» سمير جعجع يعمل لكي يكون الرئيس الجديد من صلب قوى 14 آذار التي مثّلت خطّ السيادة والإستقلال الذي تمثّله بكركي أيضاً. ولكن بكركي بقيت خارج إطار التسمية والدعم. ولذلك فرقت رئاسة 2014 بين الأربعة وأبعدت بكركي عن اتخاذ القرار في ما خصّ الرئاسة الأولى. على رغم أنّ قوى 14 آذار كانت تحظى بأكثرية مجلس نواب 2009 إلّا أنّ «حزب الله» مع عون وحلفائهما عطّلوا النصاب ولم يكن لدى فرنجية الجرأة للخروج عن قرار «الحزب» الداعم لعون. بعد 25 أيار 2014 لم يكن هناك من يتصوّر أن الفراغ سيستمرّ حتى 31 تشرين الأول 2016.
تجربة عون القاسية
شكّل انتخاب عون رئيساً انتهاء لمرحلة الفراغ ولكنّه لم يكن بداية للخروج من الأزمة ومن وصاية «حزب الله». كانت لبكركي والبطريرك الراعي مواقف واضحة من وضع الرئيس عون الجمهورية في تصرف «حزب الله». أكثر من مرّة حاول الراعي أن يحثّ عون على تحرير قرار الشرعية ولكنّ صرخاته كانت تتردّد بعيداً عن مسامع عون الذي بدا مستسلماً كلّياً للتحالف مع «حزب الله»، معتبراً أنّ هذه العلاقة هي الممرّ الطبيعي ليكون صهره جبران باسيل خلفاً له في رئاسة الجمهورية. على رغم تأييد «القوات اللبنانية» ترشيح عون لم يبْنِ عون علاقة سليمة مع «القوات»، وانقلب عليها كما انقلب على حليفه السابق سليمان فرنجية.
في ظلّ هذه البلبلة استطاع البطريرك الراعي أن يجمع بين الدكتور جعجع والوزير السابق سليمان فرنجية في لقاء مصالحة في 14 تشرين الثاني 2018 في بكركي. قبل هذا اللقاء كان وقع الخلاف بين فرنجية وعون منذ استحقاق رئاسة 2016 وبين عون و»القوات» منذ تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى ومحاولة إقصاء «القوات» عن الحكومة، والحكم بعيداً عن روحية اتفاق معراب ونصّه.
إستحقاق انتخابات 2022 الرئاسية لم يكن مختلفاً عن استحقاق 2014. مرة جديدة فرض «حزب الله» الفراغ. المرة الأولى تمسك بترشيح عون والمرة الثانية يتمسك بترشيح فرنجية. على رغم عيشه تجربة عون لم يخرج فرنجية من عباءة «الحزب» ويكرر معه تجربة التعطيل. ومرّة جديدة تجد بكركي نفسها أمام مواجهة مكرّرة مع الفراغ. صحيح أنّ البطريرك الراعي رفع السقف كثيراً ووضع مواصفات عالية للرئيس المطلوب انتخابه، ولكن دون وضع هذه العظات موضع التنفيذ عقبات كثيرة. لم ينتقل الراعي إلى وضع عظاته ومواصفاته موضع التنفيذ وكادت تتكرّر معه تجربة تسمية مرشحين لاختيار واحد من بينهم ولكنه حاذر في النهاية الوقوع في هذا المطبّ. وخرج أيضاً من مسألة الدعوة إلى عقد اجتماع نيابي مسيحي موسّع لمناقشة مسألة الترشيح إلى رئاسة الجمهورية.
لا يستطيع البطريرك أن يدعم مرشحاً من دون آخر على قاعدة أنّ كل المرشحين من أبناء الكنيسة، ولكن بحكم المواصفات التي وضعها للرئيس المطلوب في هذه المرحلة وفي كل مرحلة، يمكن قراءة الإسم الذي توافق عليه بكركي والذي لا توافق عليه من دون أن تسمّيه. كلّهم أبناء الكنيسة ولكن ليس كلّهم من يستحقّون أن يكونوا في موقع رئاسة الجمهورية. هل تستطيع بكركي أن تقنع فرنجية بالخروج من عباءة «الحزب»؟ وهل تستطيع بكركي أن يكون لها موقف رئاسي مماثل من موقفها تجاه تأييد ثورة 17 تشرين والمطالبة بالحقيقة في قضية تفجير مرفأ بيروت؟ فالمطلوب اليوم تحرير قرار الشرعية والخروج من عهد وصاية «حزب الله».