كرّر البطريرك بشارة الراعي الدعوة إلى مؤتمر دولي لإخراج لبنان من أزمته، وهذا التكرار مردّه إلى انسداد أُفق الحلول الوطنية والسياسية والمالية، وأخيراً الرئاسية، مع الشغور في موقع رئاسة الجمهورية. ولكن، هل الدعوة لهذا المؤتمر كافية، أم يجب ان تترافق مع خطوات عملية يتولاها البطريرك؟
لم يطرح البطريرك الراعي مسألة المؤتمر الدولي عن عبث، إنما بعد ان لمس عدم استعداد فئة لبنانية لمناقشة الأسباب الجوهرية للأزمة المتعلِّقة بوجود سلاح خارج الدولة والتعطيل المتمادي للدستور. وإذا كان غضّ النظر عن هذا الأمر في مرحلة سابقة ممكناً، فإنّه بعد الانهيار وغياب المعالجات الجدّية للخروج منه لم يعد مسموحاً، حيث أظهرت هذه الفئة انّها لا تأبه لوضع البلد وشعبه، وانّ همّها ينحصر في نفوذها وسلطتها.
فالأزمة السياسية قد يحتمل حلّها التأجيل والانتظار، على رغم سلبياتها وانعكاساتها على الاستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي، إلّا انّ الأزمة المالية تستدعي معالجات سريعة بسبب مخاطرها وما تسبِّبه من تفريغ للبلد من أهله، ومع غياب هذا التوجُّه، لأنّ الحلول المالية تتطلّب خطوات سياسية بفعل الارتباط العضوي للأزمة المالية بالأزمة السياسية، ولا يوجد اي استعداد لتنازلات من هذا القبيل، فإنّه لم يعد أمام البطريرك سوى الدعوة إلى مؤتمر دولي، خشية من هجرة كثيفة تؤدي إلى انقلاب ديموغرافي يطيح التوازن ويؤسس لأمر واقع جديد طويل الأمد، ويُطيح هوية هذا البلد.
ومعلوم انّ «حزب الله» في غير وارد تسليم سلاحه، وانّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية لن يعالج جوهر الأزمة المتعلِّق بالسلاح، إنما حدود مفاعيله لن تتجاوز فرملة الانهيار، خصوصاً انّ تحقيق الإصلاحات لن يكون بهذه السهولة، حيث انّ الفريق الذي يمنع وقف التهريب لن يبدِّل في ممارسته، والفريق الذي يمنع الحلول في قطاع الكهرباء سيواصل تعطيله، وهكذا دواليك، وكل الهدف من إعادة إنتاج السلطة تجنيب لبنان الفوضى، ولكن الأزمة التي اندلعت مع خروج الجيش السوري ستراوح بفصول جديدة.
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ المؤتمر الدولي تحوّل إلى حاجة ماسة وملِّحة وتحديداً بعد الانهيار المالي، والشخصية الوحيدة القادرة على الدفع باتجاه انعقاده هي البطريرك الماروني، ولكن التئام هذا المؤتمر لا يتحقّق بعظات ومواقف، إنما يتطلّب من البطريرك جولة على عواصم القرار، تبدأ بالرياض وتعرِّج على باريس وتُتوّج في واشنطن وتُختتم في الفاتيكان، وما لم يحوِّل البطريرك دعوته إلى خطوة عملية ستبقى مجرّد رفعاً للصوت اعتراضاً على التعطيل المتمادي، وحدودها لبنان من دون أي ترددات خارجية.
فالمجتمع الدولي المُنشغل في أزماته لن يتجاوب مع مواقف ودعوات وبيانات، وتجاوبه أساساً مع جولة البطريرك لن يكون مضموناً، إنما جولة من هذا القبيل يمكن ان تُخرج هذا المجتمع من وضعية النأي بالنفس التي ينتهجها حيال لبنان، والمومنتم الحالي أكثر من مؤاتٍ، إن بسبب انسداد الأفق الداخلي واستمرار الانهيار والشغور وغياب الحلول النهائية، أو بفعل توسُّع رقعة الخلاف الأميركي والأوروبي مع إيران نتيجة دعمها لموسكو عسكرياً في حربها في أوكرانيا، وبالتالي المسرح اللبناني جاهز والمسرح الدولي والإقليمي بدوره جاهز.
وعلى رغم أهمية المطالبة بتطبيق اتفاق الطائف ومقررات الجامعة العربية وقرارات الشرعية الدولية، إلاّ انّ هذه العناصر غير قادرة على تحريك العقل الغربي، خصوصاً انّها تتردّد منذ سنوات وعقود، فيما محاكاة هذا العقل يَفترض التركيز على ثلاث قضايا أساسية:
القضية الأولى تتعلّق بزوال لبنان وتحميل المجتمع الدولي مسؤولية زوال دولة كانت السبّاقة في إرساء نظام سياسي قائم على التعددية والحرية والديموقراطية، وشكّلت النموذج الغربي الأول في الشرق، مع محافظتها على خصوصية جغرافيتها، والإعلان صراحة وجهاراً انّ لبنان دخل في موت سريري.
القضية الثانية ترتبط بالوجود المسيحي الحرّ في لبنان، كآخر مساحة للمسيحية المشرقية، وانّ استمرار الأزمة السياسية والانهيار المالي وغياب الأفق السياسي، كلها عوامل تسرِّع في وتيرة الهجرة ومضاعفة منسوبها، وبالتالي الخلل في الميزان الديموغرافي سيُفقد المسيحيين الوزن السياسي، فيخسرون وجودهم وحضورهم السياسيين، ويتحوّلون للمرة الأولى في تاريخهم إلى أقلية هامشية هدفها مغادرة البلد، وعدم تحرُّك المجتمع الدولي سريعاً يحمِّله تبعات زوال المسيحية اللبنانية سياسياً.
القضية الثالثة تتعلّق بالتجربة اللبنانية التعايشية الفريدة من نوعها في الشرق والغرب، فلا يوجد دولة في العالم يتقاسم فيها المسيحيون والمسلمون السلطة في نظام يزاوج بين الطائفي والمدني، ولا مصلحة للدول الغربية ولا للدول العربية والإسلامية في التضحية بالدولة الوحيدة في الشرق والغرب التي تقدِّم نموذجاً تشاركياً حضارياً، وبالتالي عدم المبادرة سريعاً يعني القضاء على هذه التجربة ودفنها.
فرفع الصوت من عواصم القرار بالتحذير من مغبّة زوال لبنان والشعب اللبناني والشعب المسيحي يؤدي إلى تحريك الرأي العام الدولي وتعبئة الدياسبورا اللبنانية واستنهاضها، ويؤدي إلى إدارة المجتمعين العربي والغربي محركاتهما إنقاذاً للبنان وشعبه من الزوال والهجرة والموت المحتّم.
وليس خافياً على أحد، انّ هناك من يستخدم عامل الوقت لتغيير الوقائع الديموغرافية اللبنانية وتبديلها، مراهناً انّ أحداً لا يستطيع نزع سلاحه في الداخل، ومراهناً على الديموقراطية العددية التي ستشكّل الضربة الحاسمة والقاضية بعد سنوات، ومراهناً على الميوعة الدولية وغياب الحلول لأزمات المنطقة.
ويجب الإقرار انّ المواجهة السياسية مع هذا المشروع في الداخل أقصى ما بإمكانها تحقيقه تأخير تمدُّد هذا المشروع والرهان على متغيرات خارجية تؤدي إلى سقوطه او تعطيله. ولكن ماذا لو تأخرّت هذه المتغيرات التي ليست بمتناول أحد، فيما الصمود على رغم أهميته غير كافٍ ما لم يُواكب بخطة خارجية مساعدة للبنانيين، لأنّ أزمته ليست داخلية فقط، إنما خارجية في ظل الدور الإيراني المصدِّر للثورة الإيرانية مع «حزب الله» في لبنان، والشعب اللبناني عاجز عن مواجهة طهران، وعلى المجتمع الدولي ان يتكفّل في مواجهتها دفاعاً عن دولة مؤسسة في الأمم المتحدة، تتعرّض لانتهاك فاضح لسيادتها ودستورها وقرارها.
فلا حلّ للأزمة اللبنانية سوى من خلال مؤتمر دولي، ولا إمكانية لانعقاد هذا المؤتمر بالعظات والبيانات والمواقف، والفرصة الإنقاذية الوحيدة للبنان وشعبه وصيغته وتجربته تكمن في ان يحمل البطريرك الراعي عصاه الخشبية ويجول على عواصم القرار، لإقناعها بضرورة الإسراع في عقد مؤتمر دولي حول لبنان. وبالتالي لا حلّ للأزمة اللبنانية الوجودية سوى من خلال خروج البطريرك من بكركي إلى العالم. وقدر بكركي أو مسؤوليتها التاريخية ان تنتزع الاستقلال الثالث على غرار انتزاعها الاستقلالين الأول والثاني.