وضع البطريرك بشارة الراعي في عظته الأخيرة الأحد الماضي في 14 الجاري معادلة جديدة ذكّرت اللبنانيين بالمعادلة التي كان قد وضعها سلفه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير بعنوان «إذا خيِّرنا بين الحرية والعيش المشترك، لاخترنا الحرية».
قال البطريرك الراعي إن «إنقاذ الشراكة بات متعذراً من دون الحياد، وكلما تأخّرنا في اعتماد هذا النظام كلما تضررت الشراكة الوطنية ودخل لبنان في متاهات دستورية لا يستطيع أي طرف أن يحدِّد مداها»، ما يعني انه أعلن صراحة ان لا شراكة في الداخل من دون الحياد مع الخارج.
ولم يأتِ موقف البطريرك من فراغ، إنما ارتكز الى ميثاق العام 1943 الذي كان أوّل بنوده وأبرزها الحياد بعنوان «لا شرق ولا غرب»، ولو لم يتمّ التوافق على هذا البند لما أقرّ الميثاق، ولما انطلقت الجمهورية الأولى، ولما كان من عيش مشترك، ولما عُرِف لبنان بوطن الرسالة، ما يعني ان الحياد شكّل المدخل للعيش المشترك، والركيزة الأساسية لهذا العيش، ومن دونه يسقط التعايش بين اللبنانيين.
وقد عكس البطريرك في كلامه واقع الحال في لبنان منذ سقوط الحياد مع اتفاق القاهرة في العام 1969، لأن مع هذا السقوط سقط التعايش، ودخل لبنان في دوامة من الحروب التي لم تنته بعد، وعدم استعادته لعافيته وازدهاره واستقراره سببه الرئيس والأساس سقوط حياده واستمراره في قلب سياسة المحاور ومصادرة قراره في العقود الثلاثة الأخيرة من جانب النظام السوري ومن ثمّ النظام الإيراني.
فالبطريرك وضع إصبعه على الجرح اللبناني: لا استقرار من دون حياد، ولا ازدهار من دون حياد، ولا سيادة من دون حياد، ولا دولة من دون حياد، ولا عيش مشتركاً من دون حياد، وكلامه عن هذا الموضوع أتى تجسيدا لواقع الحال وإنذارا لمن يعنيهم الأمر أن الأمور لا يمكن ان تستمر على هذا المنوال.
وكان قد سبق هذه المعادلة بالدعوة إلى مؤتمر دولي حول لبنان يعيد تثبيت دستوره وشرعيته ودولته، كما رفع عنوان الحياد كمدخل لإنقاذ لبنان والشعب اللبناني، وعندما لمس عدم التجاوب مع دعوته وإعلانه طوّر موقفه في اتجاه التحذير من ان لا شراكة وطنية بلا حياد، وهذا يعني ان البطريرك ليس في وارد التراجع عن موقفه، وان الرهان على عامل الوقت لِدفعه إلى التراجع وإهمال هذا الموقف ليس في محله، لا بل ذهب البطريرك في الاتجاه المعاكس، اي في اتجاه التقدُّم بدلاً من التراجع، والتصعيد بدلا من التهدئة، وتطوير موقفه بدلا من الإبقاء عليه بصيغته السابقة.
وأتت هذه الرسالة في اللحظة التي دخل فيها لبنان مجددا في الشلل والتعطيل والجمود على وقع انسداد في الأفق السياسي وأزمة مالية متدحرجة وغلاء فاحش في كل شيء وتحديدا في الدواء والمحروقات، وبعد مساع طويلة كان قد أجراها وتولاها ومواقف تصعيدية كان قد أطلقها من أجل تأليف الحكومة، لأن همّ البطريرك ليس الحكومة في حد ذاتها، إنما الناس وقدرتهم على الاستمرارية، حيث ان انتظام العمل الحكومي والمؤسساتي يؤدي إلى تفعيل الدورة الاقتصادية وفتح باب المساعدات بدءا من الصندوق الدولي.
وبعد ان وجد البطريرك ان الوضع اللبناني ينزلق من السيئ إلى الأسوأ، وان الحلول الترقيعية لم تعد تجدي نفعا، وان الفريق المعطِّل للدولة ومؤسساتها يواصل السياسة نفسها بالتعطيل سعياً لانتزاع مآربه على رغم المآسي ووصول البلد إلى مشارف انهيار الهيكل والفوضى، رفع من منسوب مواقفه وتحذيراته مهددا بانهيار الشراكة نهائيا في حال عدم إحياء الحياد.
وأتت هذه الرسالة التحذيرية أيضا في اللحظة التي «كفر» فيها الشعب اللبناني بالواقع السياسي ويبحث عن «حجّ خلاص»، وفي اللحظة التي يُبحث خلالها في التسوية على مستوى المنطقة في المفاوضات الدولية والأميركية مع إيران، وفي اللحظة التي تسبق زيارة البابا لقبرص واليونان مطلع الشهر المقبل، وفي اللحظة التي كان قد وجّه فيها دعوة الى مؤتمر دولي من أجل لبنان، وكل ذلك يعني ان الأزمة اللبنانية لم يعد ممكنا معالجتها عن طريق المسكنات، إنما أصبحت تستدعي البحث في الأساسيات: إما الحياد وإما لا شراكة.
ومن أجل مزيد من الدقة، فالشراكة غير قائمة اليوم إلا شكليا وصوريا، لأن الذي يفترض ان يكون شريكا لا يحترم الشراكة وموجباتها التي تبدأ باحترام الحياد، ولا تنتهي بترسيخ قواعد الدولة، وما بينهما الاتفاق والتفاهم على إدارة البلد بعيدا من اي تفرُّد. وبالتالي، هذا الشريك المفترض أطاح ويطيح من خلال ممارسته بالشراكة والحياد في آن معاً، ومن غير المسموح، بعرف البطريرك، ان يستمر هذا الواقع الذي بات يشكل خطرا على الجمهورية اللبنانية برمتها دورا وهوية ومستقبل الشعب اللبناني.
وعندما أطلق البطريرك صفير معادلته «إذا خيِّرنا بين الحرية والعيش المشترك، لاخترنا الحرية»، كان الهدف منها القول ان العيش المشترك نابع من قرار حرّ اخترناه باقتناع وحرية وإرادة واعية، وهو لم يفرض وليس مفروضا علينا، وهذا القول أعطى قيمة مضافة للعيش المشترك من ان الحرية هي أساس هذا العيش، والحرية هي الضامن لهذا العيش، ولذلك، الأولوية للحرية لأن كل ما يتم اختياره بحرية له طابع الاستمرارية، وكل ما يفرض فرضا ينتهي مع زوال مبررات فرضه.
وقد اضطر البطريرك الراعي إلى إعادة التذكير بالمعادلة التي قامت عليها الجمهورية الأولى التي تشكل استمرارا للواقع الراهن، حيث ان هذه الجمهورية لم تبصر النور سوى بعد ان تمّ الاتفاق على بند الحياد كبند ميثاقي تأسيسي للدولة والعيش معا، وإصرار هذا الفريق على مواصلة الانقلاب على الدولة والميثاق والدستور والشراكة استدعى انتقال البطريرك من مرحلة مواجهة هذا الانقلاب، إلى مرحلة التلويح للمرة الأولى بفكّ الشراكة طالما ان الشريك المفترض لا يحترم أصول هذه الشراكة ويتفرّد بحكم البلد ويقوده إلى العزلة والانهيار.
وإذا كان «حزب الله» يعتبر انه غير معني بمعادلة العام 1943 ويضعها في خانة الاتفاق بين المسيحيين والسنة وهو في حِلّ من هذا الاتفاق، فرسالة البطريرك موجهة إليه بالذات على غرار رسالته الأولى المتعلقة بضرورة إعادة تطبيق الحياد الذي أطاح به الحزب، ورسالته الثانية بالدعوة إلى مؤتمر دولي للعبور إلى الدولة التي يمنع قيامها الحزب، والرسالة الثالثة تتعلّق بالحزب تحديدا أيضا، خصوصا ان لبنان قائم على شراكة مسيحية – إسلامية وليس على شراكة مارونية وأرثوذكسية وكاثوليكية (…) مقابل سنية وشيعية ودرزية (…)، وبالتالي إما ان يلتزم «حزب الله» بالحياد وإما لا شراكة معه.
فالبطريرك قال «لاء» حاسمة: «لا شراكة من دون حياد»، ونتكلّم هنا عن رأس الكنيسة المارونية الذي له شبكة علاقاته الدولية، وعلى «حزب الله» ان يأخذ هذا الموقف في الاعتبار، وأن يعتبر ان النزاع معه تجاوز مرحلة ربط النزاع، وانتقل إلى حسم الخيارات، فإما شراكة مع حياد، وإما لا شراكة من دون حياد، ويعني ان العدّ العكسي لنظام العام 1990 المخطوف من محور الممانعة قد بدأ…