لم يكن مرجعاً روحياً لأبناء طائفته، بقدر ما كان مناضلاً وطنياً من سيادة الوطن وكرامة مواطنيه.
لم يجلس على كرسي بكركي ليعظ رعاياه من المؤمنين وحسب، بل احتل قلوب اللبنانيين بمواقفه الجريئة ومبادراته الوطنية الشجاعة.
لم يعزل تفكيره داخل حلقة الطائفة وامتيازاتها، بقدر ما كانت رؤيته واسعة وتسعى لإنقاذ الوطن من استغلال الطائفيين وحروب السلطويين، والحفاظ على صيغة لبنان الواحد والشعب الواحد والدولة الواحدة.
لم يساوم، ولم يتنازل، وبقي جبلاً صامداً أمام شتى الضغوط ، لا الترغيب أغراه، ولا الترهيب أرعبه، واستمر في قيادة سفينة السيادة والاستقلال رغم كل العواصف التي واجهته، حتى أوصلها إلى شاطئ الأمان، بعدما وجد في اتفاق الطائف فرصة تاريخية لإنهاء القتال في المناطق المسيحية، وإنقاذ الوطن من براثن الحرب القذرة، وإعادة إحياء صيغة العيش الواحد بين اللبنانيين.
في زمن تراجع فيه وجود ودور القيادات السياسية المسيحية، برز دور البطريرك صفير الوطني بامتياز، من خلال رعايته للحركات الاستقلالية، وأبرزها لقاء قرنة شهوان الذي أوكل إدارته إلى المطران يوسف بشارة، ومن خلال تشجيعه للقاءات الوطنية، سواء لقاء البريستول الشهير، أم اجتماعات قريطم إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي أوفد له مطران بيروت بولس مطر، والذي خرجت من رحمه حركة ١٤ آذار، التي تعاملت مع سيد بكركي وكأنه الأب الروحي والملهم الوطني، والمشارك دائماً في القرارات الوطنية الكبرى.
كان سباقاً في طرح المبادرات اللبنانية المفصلية، حيث أطلق في خريف عام ٢٠٠١ بعد أشهر معدودة من الاندحار الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيار من العام نفسه، نداء المطارنة الجريء المطالب بخروج الجيش السوري من لبنان، بعد انتفاء المبرر الذي طالما استخدمه السوريون للإبقاء على تواجدهم العسكري في البلد. ثم راح يطلق المواقف، الواحد تلو الآخر، المطالبة بحصر وجود السلاح بيد الشرعية وأجهزتها الأمنية، ووضع حد لسلاح حزب الله ووضعه تحت إمرة الجيش اللبناني.
وفي عام ٢٠٠١ شدّ الرحال إلى مصالحة الجبل التاريخية، غير عابئ بكل الضغوط السورية، وقابله زعيم الجبل وليد جنبلاط في منتصف الطريق ليطويا معاً صفحة سوداء وبغيضة في تاريخ الجبل الأشم، ويُعيدا أجواء التلاقي والصفاء بين أبناء المنطقة الواحدة والقرية الواحدة.
في الأشهر الأخيرة التي سبقت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، نسج البطريرك صفير علاقات تفاهم وتحالف وثيقة مع الرئيس الشهيد، الذي كان يخوض مواجهتين ضد الوجود السوري: الأولى، السعي لوضع قانون انتخابات عصري وملائم لجميع المكونات اللبنانية، وخاصة المسيحية. والثانية المطالبة بإعادة انتشار الجيش السوري والانسحاب باتجاه البقاع، ووقف تدخل جهاز المخابرات السورية في مجريات الحياة السياسية الداخلية، ونقل جميع مكاتب المخابرات من بيروت وجبل لبنان إلى البقاع.
حافظ على الهالة الدستورية للرئاسة الأولى في ذروة خلافه مع الرئيس اميل لحود، حيث رفض تحرك قوى ١٤ آذار باتجاه قصر بعبدا لعزل رئيس الجمهورية، متجاوزاً حالة الجفاء والقطيعة مع بعبدا، وتقصير رئيس الجمهورية مع بكركي، التي رفض زيارتها حسب الأعراف المتبعة منذ فجر الاستقلال. وتسبب هذا الموقف المفاجئ بانعكاسات سلبية على زخم الاندفاعة السيادية التي كانت قلبت المعادلة السياسية رأساً على عقب، وأفسحت المجال في عودة العماد ميشال عون من المنفى وإطلاق سمير جعجع من السجن.
رغم كل المعاناة والنكسات، بقي لبنان بالنسبة له «وطن الرسالة»، قبل أن يكون دولة تستنزفها الصراعات السياسية والطائفية، وساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على حساب أمن واستقرار هذا الشعب المغلوب على أمره. وكانت صرخته عالية ضد الطبقة الفاسدة والعاجزة، مطالباً بإصلاح ما أفسده السياسيون، ووقف الهدر والنهب لأموال الدولة.
بطريرك الوطن التاريخي والاستثنائي لم يُكمل عامه التاسع والتسعين، وغادرنا قبل ذكرى مولده بأربعة أيام، حتى لا يرى ما آلت إليه أوضاع دولة تهتز قواعدها عشية بلوغها المئة عام.
ولا ندري إذا كان سيردد في عليائه كلمات التسامح التي كان يرددها في صلاته:
اغفر لهم يا أبتاه فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!