ليست مجرد عظة أو وثيقة سياسية ترسم خريطة طريق. إنّها بمثابة رقيم بطريركي بامتياز خطَّه الكاردينال بشارة الراعي في رثاء لبنان الذي أدخلوه عنوةً الى الجحيم، وأهداه في الآن نفسه الى روح لقمان سليم ايماناً برجاءٍ ونورٍ كان يشعل به الظلمات وبقيامة لبنان جديد.
قال البطريرك الراعي امس بالفم الملآن وبلغةٍ شفافة ما كان يرغب فيه لقمان للبنان ختاماً لمسار جلجلته الطويل. لكن غبطته أخطأ في فقرةٍ يتيمة من عظته التاريخية الواصفة لسوء الأحوال وآفاق الحل الدائم للبلاد. وهو معذور فموقعه الديني والوطني المسؤول لا يتيح له بوح الكثير أو إضافة اكتئابٍ الى إحباط المواطنين.
لا شك في أنّ الخطأ مقصود. فالبطريرك يعلم أن حضَّ الدولة على كشف قاتلي لقمان والمحرّضين ضربة سيف بالماء. وهو سمعَ كسائر اللبنانيين عائلة القتيل بكبريائها النبيل تزدري بالتحقيقات ولا تعوّل على عدالةٍ سقطت في اختبارات الاغتيالات كلّها وصولاً الى جريمة 4 آب الكبرى.
لم تأتِ من فراغ مطالبة البطريرك بمؤتمرٍ دولي يضمن حياد لبنان ويحمي دولته وشعبه وسلاحه الشرعي، ولا من رغبة في تجاوز وقائع سياسية وتوازناتٍ محلية واقليمية هو الخبير في معارجها ومطبّاتها. بشاعة اغتيال لقمان ثبَّتت يقين البطريرك بأننا في شريعة غاب، وأن الدولة عاجزة عن حماية أعزل بليغ وجريء. سببان وجيهان ربما جعلاه يقرّب موعد إعلان الخيار النهائي الذي يتمّم طرح الحياد الايجابي ويعيد الى لبنان دولة فقدت أبسط المقومات.
تصلح عظة البطريرك وثيقةً وبرنامج عملٍ لكلّ لبناني حرّ مؤمن بخلاص لبنان وحقّ أبنائه في العيش الحر الكريم. وفي طياتها الايمان العميق بأنّ الشعب سيبقى مصدر السلطات وانّه عائدٌ الى الساحات لاسترداد ما سلبته “المنظومة”، فلا الانهيار الاقتصادي سيدمّر أمل النهوض، ولا الإفقار سيمنع الشباب من محاسبة المرتكبين.
مَن له عينان فليقرأ، ومَن له أذنان فلْيسمع. بين سطور العظة “الثورية” إدانةٌ لأي قمع تمارسه سلطة فقدت الشرعيتين الأخلاقية والسياسية. وذهاب المواطنين الى كلّ “الخيارات السلبية القصوى” حقٌ لا ينازعهم فيه وزير يتذرّع بتطبيق القانون، أو ضابطٌ ينفذ أوامر نظام مُدان، أو قاضٍ يسجن المحتجين من غير تحكيم للضمير. فلا شرعية فوق شرعية حقّ الرفض والتغيير في وجه طغمة انتهكت الدستور وداست القوانين.
يئس البطريرك من مناشدة أهل السلطة وقف مسلسل التعطيل الحكومي والإمعان في تدمير حاضر اللبنانيين ومستقبلهم. لم يعد مِن مجال لإضاعة الوقت بطروحات اصلاح النظام عبر قانونٍ انتخابي جديد هدفُه الهيمنة لا تصحيح التمثيل، أو عبر دعواتٍ مشبوهة الى “مؤتمر تأسيسي” يُضمر مثالثة و”حلف أقليات” مقيت.
هدية البطريرك الى لقمان رقيم بطريركي مُسبق ملؤه ما كانهُ لقمان من صراحةٍ وإرادةٍ حرة وإشارة بالبَنان، ودعوةٌ شجاعة الى وضع مصير البلد الجريح في يد الأمم المتحدة ليأتي من لدُن قيمها ومواثيقها خلاصُ لبنان الدولة ولبنان الحرية التي كان لقمان قرباناً آخر على مذبحها.