توقف كثيرون أمام الموقف الأخير للبطريرك بشارة الراعي، الذي ناشد فيه الرئيس ميشال عون «العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحر». ولكن هذا الموقف جاء استكمالاً لمواقفه الأخيرة، وتحديداً ما تضمنته دعوته رئيس الجمهورية إلى إرجاء الحوار.
في هذه الدعوة، صوّب الراعي نحو الهدف مباشرة بقوله، انّ الأساس في أي حوار «الذهاب إلى جوهر المشكلة وطرح الحل الحقيقي بعيداً من الحياء والتسويات والمساومات، وإصدار وثيقة وطنية تكون بمستوى الأحداث الخطيرة الراهنة، وترسم خريطة طريق ثابتة تتضمن موقفاً موحداً من القضايا التي أدّت إلى الإنهيار السياسي والمالي والاقتصادي والاجتماعي، وإلى الانكشاف الأمني والعسكري. وثيقة تصوّب الخيارات والمسار، بتأكيد وحدة لبنان وحياده، وتحقيق اللامركزية الموسعة، وصيانة مرجعية الدولة الشرعية بمؤسساتها كافة، وبخاصة تلك الأمنية والعسكرية، والإقرار الفعلي بسلطة الدولة دون سواها على الأراضي اللبنانية كافة، والتزام قرارات الشرعية الدولية، ومكافحة الفساد في كل مساحاته وأوكاره، وحماية استقلالية القضاء وتحرّره من أي تدخّل أو نفوذ سياسي أو حزبي، ما يعيد لبنان إلى مكانه ومكانته، فيتصالح مع محيطه العربي ويستعيد ثقة العالم به».
عندما تأسّس لقاء «قرنة شهوان» في نيسان 2001 ارتكز على بيان مجلس المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في أيلول 2000، فكانت وثيقة اللقاء جزءاً لا يتجزأ من النداء «الأيلولي» الذي رسم، على غرار موقف الراعي عشية الحوار الوطني في بعبدا في 25 حزيران، خريطة طريق المرحلة التي أدّت في نهايتها إلى إخراج الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005.
يدرك البطريرك انّ رئيس الجمهورية لن يأخذ باقتراحه، ولكنه تقصّد توجيه رسالة بالغة الأهمية بأنّ الأزمة اللبنانية التي وصلت إلى حد انهيار كل شيء، انهيار مالي واقتصادي وصحي وسياحي وتربوي وقيمي ونمط حياة، لم تعد تحتمل الترقيع وأنصاف الحلول، لأنّ استمرار هذه السياسة يعني هذه المرة زوال لبنان، وبالتالي حان الوقت للاتفاق على الأساسيات لا الكماليات.
فما أراد الراعي قوله، عن طريق تحديده جدول أعمال الحوار الوطني المفترض، هو انّ الكنيسة المارونية ستحمل بنفسها هذا الجدول، في رسالة إلى الداخل والخارج في آن معاً، فتتوجّه إلى الداخل ببرنامج عمل وطني تدعو من خلاله القوى المؤمنة بحيثياته وروحيته، إلى تلقفه والتوحّد حوله، من أجل الانتقال من مرحلة التشرذم إلى وحدة الصف والموقف، بعدما فعلت الظروف والأحداث فعلها، وأدّت إلى التباعد والتفرقة. وتتوجّه إلى الخارج، في مرحلة تحوّلات كبرى في المنطقة، بدعوته إلى مؤازرة اللبنانيين بسعيهم إلى حلّ أزمتهم الكيانية، عن طريق دعم تطبيق البنود التي تضمنتها دعوته الحوارية، كمدخل لعودة الحياة والاستقرار إلى لبنان.
ومعلوم انّ أي حلّ سياسي لا يمكن ان يتحقق سوى عن طريق تقاطع ظروف داخلية مع ظروف خارجية، لأنّ الداخل لوحده يبقى قاصراً عن حلّ إشكالية ببعد وعمق خارجيين، والخارج لا يستطيع ان يشكّل رافعة ودعماً لتوجّهات داخلية، إذا لم يكن هناك من وحدة موقف وصف. وبالتالي، الجهوزية الداخلية ضرورية لمواكبة التطورات الخارجية، ولو لم يتبلور الموقف الداخلي بين عامي 2004 و2005 عندما خرج الجيش السوري من لبنان، حيث انّ خروجه كان وليدة الالتقاء بين إرادة الداخل ودعم الخارج.
وعندما وجدت الكنيسة انّ الوضع اللبناني ينزلق من السيئ إلى الأسوأ، وانّ الأزمة تخطّت الخلاف على مواقع ونفوذ وسلطة، ووصلت إلى حد تغيير وجه لبنان وتدمير كل مرتكزاته وميزاته التفاضلية، وانّ الخلافات بين مكوناته السيادية حالت وتحول دون الاتفاق على برنامج عمل وطني، تصدّرت الصفوف مجدداً وكعادتها في الحقبات المصيرية والوجودية، متقدّمة بمبادرة إنقاذية تنسجم مع ثوابت الكنيسة التاريخية في النظرة إلى القضية اللبنانية.
فالعنصر المفقود، الذي شكّل نقطة الضعف الكبرى للخط السيادي واستفاد منها الفريق الآخر، هي عدم وجود مساحة مشتركة جامعة للقوى التي تلتقي على المبادئ نفسها. فقرّر البطريرك في اللحظة المناسبة ان تشكّل الكنيسة هذه المساحة، وتطلق الدينامية المطلوبة تماماً، كما شكّلت المساحة نفسها اعتباراً من العام 2000، مع إدراك بكركي الثابت انّ الموقف لوحده غير كافٍ، ما لم يكن له الصدى الوطني والسياسي المطلوب. إذ انّ أهمية نداء أيلول الشهير، تكمن في تلقفه سياسياً وترجمته على أرض الواقع، من خلال تجمُّع سياسي، وإلّا كان انتهى كوثيقة سياسية. وبالتالي، التحدّي الأساس هو في ملاقاة مواقف الراعي الأخيرة، وحملها في إطار مبادرة سياسية عملية، كما في عدم اكتفاء البطريرك بسلاح الموقف ودفعه باتجاه الترجمات العملية.
فأهمية المواقف التي أطلقها الراعي إذاً، انّها لا تنحصر فقط بالعناوين التي تندرج في سياق الثوابت اللبنانية، إنما تتعدّاها إلى مخاطبة الداخل من أجل الالتفاف حولها، ومخاطبة الخارج من أجل دعم هذا الالتفاف، تجنباً لتفويت اللحظة المؤاتية وحرصاً على عدم التفريط بلبنان على مذبح المقايضات والمساومات والاتفاقات والإهمال، بحجة انقسام اللبنانيين وتبدية الأزمات الأخرى على الأزمة اللبنانية.
ومع حركة الراعي يدخل لبنان في مرحلة الخطر الحقيقي والجدّي، على غرار المرحلة التي دخلها اعتباراً من تأسيس لقاء «قرنة شهوان»، وصولًا إلى إقرار القرار 1559 وما بعده، حيث سجلّت هذه الحقبة رقماً قياسياً في الاغتيالات السياسية، لأنّ القوى التي تقف في المقلب الآخر، تدرك جيداً معنى الوحدة السياسية وفقاً لجدول أعمال وطني وحده القادر على كسر الستاتيكو القائم.
فالخطر بالنسبة إلى المحور الآخر لا يكمن في المواقف السياسية التي اعتاد على سقفها وحدود تأثيرها، إنما ما يخشاه هو في الانتقال من الشرذمة السياسية إلى التنظيم، ضمن إطار جبهوي يشكّل أداة ضغط في الداخل، تكبر ككرة ثلج على وقع التأزُّم المالي والغضب الشعبي، وجسر تقاطع مع الخارج، ليس تنفيذاً لأجندة هذا الخارج طبعاً، إنما تنفيذاً لأجندة لبنانية بامتياز، وهذا تحديداً ما يعتبره هذا المحور خطاً أحمر، كون الإطار الجبهوي في لحظة تحولات خارجية يلقى آذاناً دولية صاغية ودعماً لتوجّهه الوطني.
وإذا كانت المرحلة السابقة قد شكّلت امتداداً لستاتيكو في كل المنطقة، لا يفيد معها تحريك الستاتيكو اللبناني حصراً، فإنّ المرحلة المقبلة ستشهد خلطاً للأوراق، لا يجوز معها عدم المبادرة، تجنباً لتضييع فرصة ثمينة بترجمة الثوابت التي تحدث عنها الراعي، وهي ثوابت لبنانية سيادية مشتركة، فيما تفويت هذه الفرصة يعني تمديد الواقع المأسوي لسنوات مديدة، بانتظار فرصة جديدة قد تأتي أو لا تأتي.
وعلى رغم من المخاطر المتوقعة، إلّا انّه لا يجب التردّد في الإقدام، خصوصاً انّه لم يبق من شيء يخشى المواطن اللبناني خسارته، بعدما انزلق الوضع إلى حد تغيير وجه لبنان وتهيئة اللبنانيين على نمط عيش لا يشبههم، قد يؤدي للمرة الأولى إلى زوال لبنان المتعارف عليه. فيما المبادرة تشكّل المدخل الوحيد للخلاص اللبناني الفعلي ولجميع اللبنانيين من دون استثناء، بعد عقود من الحروب الساخنة والباردة وعدم الاستقرار.
فهل تكون «الثالثة ثابتة» هذه المرة، بعد تفويت فرصة تطبيق اتفاق الطائف، وفرصة خروج الجيش السوري من لبنان؟