من سخريات القدر أن يكون لبنان في ذكرى مئوية إعلانه “دولة لبنان الكبير” بحاجة إلى إعلان جديد يعيد تأكيد هويته وكيانه. كأنّ الملابسات والصراعات التي رافقت تلك الولادة الصعبة تعيد نفسها من جديد وتطرح التحديات نفسها من جديد. ولكن ليس من قبيل الصدف أن تكون البطريركية المارونية في قلب معركة تثبيت حدود الدولة والهوية والكيان في العام 1920 ثم في العام 2020. بين البطريركين الياس الحويك وبشارة الراعي تتكرّر التجربة ولا بدّ من أن تنجح المحاولة.
في 20 أيّار 1919 أعلن مجلس إدارة جبل لبنان استقلال لبنان ضمن حدود المتصرفية. بعد هذا الإعلان صرح الأمير فيصل من دمشق بأن لبنان ليس إلّا جزءاً من سوريا. بعد هذا التصريح أمّت وفود شعبية من كلّ لبنان الصرح البطريركي وسلّمت البطريرك الياس الحويّك تفويضاً للتكلّم باسمهم وحمل قضية لبنان إلى مؤتمر الصلح في باريس. في 9 كانون الأول 1918، بعد شهر تقريباً على إعلان انتهاء الحرب العالمية الأولى، أرسل مجلس الإدارة الوفد اللبناني الأول إلى باريس برئاسة داود عمّون ولكن من دون أن يؤدّي ذلك إلى نتيجة تذكر، بسبب عدم تبلور الصورة التي سترسو عليها المنطقة بعد زوال الإحتلال العثماني وقيام النظام العالمي الجديد.
لبنان بين يدي العالم
نتيجة هذا التفويض ركب البطريرك الحويّك البحر ووصل باريس في 23 آب 1919 ونزل ضيفاً على الحكومة الفرنسية، وحمل معه خطاباً وجّهه إلى رئيس مؤتمر الصلح ورئيس الحكومة الفرنسية كليمنصو، يتضمّن مطلب الإستقلال المطلق والسيادة التامة الداخلية والخارجية قبل أن يضمّنه لاحقاً مطلب الإنتداب الفرنسي على لبنان. في 10 تشرين الثاني 1919 حصل الحويّك على تعهّد كليمنصو بإعلان استقلال لبنان بجبله وسهوله ومرافئه. ولكن هذا التعهّد بقي من دون تأكيد ومن دون تثبيت.
قبل مئة عام أراد البطريرك الحويّك تثبيت هويّة لبنان ضمن ثلاثة حدود: تأكيد الشرعية المحلية برعاية الشرعية الدولية وتثبيت الحدود الجغرافية والسيادية. وهذا ما يريد أن يفعله البطريرك الراعي اليوم بعد مئة عام: تحرير الشرعية وتنفيذ القرارات الدولية وإعلان حياد لبنان.
قبل مئة عام حمل الحويّك قضية لبنان وهو خارج من جراح ومآسي الحرب العالمية الأولى ومن الجوع، ومن إلغاء الأتراك لوضعية متصرفية جبل لبنان التي كانت نشأت في العام 1860 في ظلّ الوصاية والرعاية الدولية. كانت هناك مرحلة تنتهي وتبدأ مرحلة جديدة تُرسم فيها خريطة المنطقة وحدود الدول الجديدة. بعد مئة عام يتحرّك البطريرك الراعي ليحمل من جديد قضية لبنان في ظلّ عدم الخروج من مآسي الحرب وإدخال لبنان في خضم حروب ومآسٍ جديدة ألغت امتيازاته كما ألغيت امتيازات المتصرفية، ومن وضع يشبه مآسي المجاعة، وفي مرحلة تعاد فيها عملية رسم خرائط المنطقة إن لم يكن على صعيد الدول والحدود فقد تكون على صعيد الأنظمة والشعوب.
قبل مئة عام لم تكن ولادة لبنان الكبير مسألة بسيطة. بين الحلم بالإستقلال وبين استتباع لبنان إلى المملكة السورية بقيادة الملك فيصل كانت المحاولة تمرّ بعقبات كثيرة. لم يكن من الممكن الوصول إلى ذلك الإعلان لو لم تنكسر الحلقة التي كانت لا تزال تقف في طريقه. معركة ميسلون في 24 تموز 1920 كسرت هذه الحلقة. أنهت حلم فيصل الكبير وأحيت حلم لبنان الكبير. بعد مئة عام هناك حلقة لا بدّ من أن تنكسر حتى يعاد بناء صورة لبنان الكبير، وهذه الحلقة ترتبط أيضاً بسوريا وبالمحور الممتد من الضاحية الجنوبية حتى طهران هذا المحور الذي يشكل اليوم تهديداً جدّياً لتلك الهوية التي صنعها إعلان دولة لبنان الكبير.
علم على سارية سفينة
في 11 شباط 1920 وصل إلى باريس الوفد اللبناني الثالث برئاسة المطران عبدالله خوري مكلّفاً من البطريرك الحويّك متابعة ملفّ لبنان في مؤتمر الصلح. سبعة أشهر بقي الوفد هناك. لم تكن صورة لبنان الجديد واضحة المعالم بينما كان الأمير فيصل يطالب بأن يستقلّ لبنان من دون أن تتوسّع حدوده حتى أن بيروت لم تكن ثابتة في خريطة لبنان الجديدة. بعد هزيمة جيش فيصل في معركة ميسلون فتحت الطريق نحو إعلان دولة لبنان الكبير ويظهر ذلك في المراسلات التي كانت تحصل بين البطريرك والمطران. ولكن هزيمة ميسلون لم تمنع من أن يحصل فيصل على حصة في الحلّ الكبير. بموجب الإتفاق بين فرنسا وبريطانيا كانت سوريا ولبنان تحت الإنتداب الفرنسي بينما أعطي فيصل مملكة العراق وإنشئت المملكة الأردنية الهاشمية لتكون تحت حكم الملك عبدالله ومن ضمنها القدس والضفة الغربية.
بعد سبعة أشهر من المشاركة في المفاوضات في باريس أعلن الجنرال غورو في بيروت من أمام قصر الصنوبر في أول أيلول 1920 قيام دولة لبنان الكبير. في 16 أيلول يسجّل المطران خوري في يوميّاته أنّه مع الوفد اللبناني عادوا من فرنسا إلى بيروت “ويوم الأحد 19 ايلول قدّسنا اليوم في البابور بحضور جمع غفير، وكان المذبح مزيناً بالأعلام ومن جملتها العلم اللبناني فباركناه ووضعناه في صدر المكان حيث قدّسنا… اليوم (20 ايلول) وصلنا إلى الإسكندرية. فلما أطلينا على المدينة عند الصباح رفع العلم اللبناني على ساري الباخرة الكبير إشارة إلى وجود الوفد اللبناني عليها، ثم دخلنا الميناء…”.
صباح 25 أيلول وصلت الباخرة إلى بيروت وكان يرتفع على ساريتها أيضاً “العلم اللبناني الذي كان يخفق بأعلى الزينة”. في أول تشرين الأول تغدّى المطران خوري في بكركي ثم غادر إلى الديمان ليلتقي البطريرك الياس الحويك ويبلغه أنّ المهمة نُفّذت وليعيد وضع الأمانة بين يديه.
على مدى مئة عام اهتزّت السارية التي تحمل العلم اللبناني أكثر من مرة ولكنّها لم تقع. وعلى مدى مئة عام بقيت بكركي رافعة راية الدفاع عن لبنان وعن الإنجاز الذي تحقّق ذات أول أيلول من العام 1920، وكان نتيجة نضال امتدّ طويلاً في الزمن وسيمتدّ أكثر من مئة عام جديدة.
يوم إعلان لبنان الكبير
إهتزّ ولم يقع
إهتزّ الكيان اللبناني أكثر من مرّة ولكنّه لم يقع. إهتزّ قبل إعلان الدستور الأول في العام 1926 واهتزّ قبل إعلان استقلاله في العام 1943. ولكنّه لم يسقط. على مدى 23 عاماً في ظل الإنتداب الفرنسي كان هذا اللبنان يحظى بالحماية الدولية التي أناطت بسلطة الإنتداب تأهيل لبنان لينال الإستقلال. زمن الإنتداب بنى أسس الدولة والشرعية والمؤسسات والإدارة والجيش. قد يصحّ القول أن هذه الدولة بتلك المؤسسات كانت الأقرب إلى الشفافية وحسن الإدارة وعدم سرقة المال العام وإن كانت ناقصة السيادة الكاملة. وليس من قبيل الصدف أن يأتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت بعد كارثة انفجار العنبر رقم 12 في المرفأ، وأن يرى بعينيه آثار الدمار الكبير لتلك الدولة التي كان لبلاده الأثر الكبير في ولادتها، وأن يسمع من عدد كبير من الذين كانوا في استقباله طلب العودة إلى زمن الإنتداب وعدم تقديم المساعدات عبر مؤسسات الدولة غير الجديرة بالإحترام، والمتهمة بالفساد وبإضاعة الدولة والجمهورية والمؤسسات.
في الحرب العالمية الثانية انتقل لبنان من الإنتداب الفرنسي الحرّ إلى الوصاية الألمانية الإيطالية في ظلّ حكومة فيشي الفرنسية، ولكنه في النهاية نال الإستقلال بعد دخول قوات الحلفاء إلى الشرق. بعد الحرب العالمية الأولى تم رسم الخرائط الأولى للمنطقة. بعد الحرب العالمية الثانية تم رسم الخرائط الجديدة. في عمليتي الترسيم بقي لبنان بحدوده السياسية والجغرافية دولة لبنان الكبير بينما كانت ثمّة دول تولد تباعاً في المنطقة وثمّة حدود تتغيّر وأخرى تندثر وحروب تندلع، خصوصاً بعد قيام دولة إسرائيل ونكبة فلسطين في 15 أيار 1948. اعتباراً من هذا التاريخ ستدخل المنطقة الحديثة الولادة عصر الإهتزازات والحروب ولن يكون لبنان بعيداً عن تأثيراتها الكبيرة والكثيرة.
بسبب هزائم 1948 العربية في فلسطين بدأت عمليات التغيير في الأنظمة. في سوريا بدأت الإنقلابات العسكرية منذ العام 1949 مع انقلاب الزعيم حسني الزعيم في آخر آذار من ذلك العام. وتبعتها مصر في 23 تموز 1952. بينما كانت الجيوش العربية تغزو القصور الرئاسية وتنظم البيانات الإنقلابية كان النظام اللبناني يحافظ على ديموقراطيته وانسيابه السياسي. ولكن هذه الميزة التي جعلته نقطة جذب في المنطقة مالياً وسياسياً وسياحياً لم تمنع انفجاره.
توالي الإنفجارات
الإنفجار الأول الكبير كان في أيار 1958. كان الهدف إلحاق لبنان بمحور الوحدة المصرية السورية بزعامة جمال عبد الناصر الذي أراد أن يكون القائد العربي الجديد الذي يعيد رسم خريطة المنطقة. قاوم رئيس الجمهورية كميل شمعون تلك المحاولة. بعد الإنقلاب الذي أطاح الملكية في العراق في 14 تموز 1958 تمّ إرسال قوات المارينز إلى بيروت لتنتهي تلك الأيام الصعبة بالإتفاق على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. وعلى صيغة لا غالب ولا مغلوب عادت اللعبة إلى إطارها السياسي. ولكن فترة الهدنة لم تدم طويلاً.
منذ العام 1965 وتأسيس حركة فتح وازدياد العمليات الفلسطينية من لبنان وبدء عسكرة المخيّمات وتفلّتها من رقابة السلطة العسكرية بدأت أطر الدولة القوية والقادرة تنهار. اتفاق القاهرة في العام 1969 لم يكن إلا تعبيراً عن هذا الإنهيار وعن بدء تفكّك الدولة ومؤسّساتها. تأجّل الإنفجار الكبير حتى 13 نيسان 1975. تدفّقت الحرب في كل لبنان أهوالاً ومآسي كبيرة وخطوط تماس وعمليات انتقام وقتل ومعارك. ولكن كلّ ذلك لم يقضِ على أسس الكيان. تبدّلت الخرائط والتحالفات الداخلية وتغيّرت هويّات المحاربين من الفلسطينيين إلى جيش النظام السوري إلى الجيش الإسرائيلي، ورسمت خرائط لتقسيم لبنان ووضعت مشاريع لتقاسمه ولكن في النهاية بقي لبنان كما كان في أول أيلول 1920. انتهت الحرب وخرجت منظمة التحرير في العام 1982 وخرج الجيش الإسرائيلي في العام 2000 وجيش النظام السوري في العام 2005 ولكن ثمّة محور لا يزال يتحكّم بالقرار اللبناني. المحور الذي يسمّيه الأمين العام لـ”حزب الله” محور الممانعة ويقول إنّه مع هذا المحور سينتصر وسيعكس هذا الإنتصار في الداخل. كل ذلك أوصل لبنان إلى الإنهيار.
هذا الإنهيار الذي بات يهدد روح الكيان اللبناني جعل البطريرك الراعي يرفع الصوت عالياً في استعادة للدور الكبير الذي قاده البطريرك الحويّك. كما حمل الأخير قضية لبنان إلى مؤتمر الصلح في باريس، لا شكّ في أن البطريرك الراعي سيعيد حمل هذه القضية إلى كل المحافل الدولية من أجل أن تعود الروح إلى هذا الكيان، ولو بعد مئة عام ومن أجل التأسيس لمئة عام جديدة. هذه هي روح الممانعة التي ستنتصر على محور الممانعة.