يكفي استعراض المسار الشائك والمزروع بألف غصة ونكسة، الذي خاضه البطريرك الماروني منذ تبوئه سدة بكركي قبل ثلاثة أعوام ونيف، لفهم غضب الرجل وثورته المعلنة هذه الأيام. 44 شهراً قضاها صارخاً في أنحاء العالم. لم تكن كلها كظاهرها، أسفاراً واحتفالات ومآدب خطابات. بل كان في عمقهما ألم وأسى وعض على جراح كثيرة. منذ اللحظة الأولى حمّله الموارنة، ومعهم كل المسيحيين واللبنانيين، وربما أكثر منهم، مسؤولية كسر مسار انحداري كان قد بدأ منذ عقود. مسؤولية إعادة توازن مفقود إلى وطن بات على حافة الوجود، في منطقة «تتشلع» مفاصلها كل لحظة وتسيل فيها كل الحدود.
منذ البداية، أدرك الراعي أن مهمته تقتضي المزاوجة بين مخاطبة الخارج القادر والمؤثر والفاعل وربما الوصي، وبين استنهاض الداخل المتداعي والمفلس والمترنح بين عجز وحقد. ومنذ البداية، كانت الصدمات والنكسات. ذهب الرجل أولاً إلى باريس، مربط الخيل وعنوان الأم الكذبة، فقيل له هناك: لا مكان لكم في الشرق. اختصروا عذاباتكم وشكواكم وارحلوا. لم يصدق الرجل ما سمعه. حتى كانت مأساة الموصل، فصار الموقف الفرنسي الوقح بياناً رسمياً موقعاً وموثقاً.
ذهب إلى واشنطن، عاصمة الديمقراطية الجفرسونية وداعية حقوق الإنسان منذ السيد لنكولن حتى السيدة روزفلت، فقيل له هناك: إما أن تكونوا حلفاء لاسرائيل، وإما أن نصير خصوماً لكم. كل الباقي تفاصيل استهلاكية… وبين باريس وواشنطن حطّ الراعي مراراً في روما، فوجدها موزعة بين أكثر من حاضرة. هناك روما البابا فرنسيس، ذلك المناضل اليسوعي الآتي إلى سدة بطرس من أميركا اللاتينية، من مجتمعات الفقر والبؤس والعقيدة الاجتماعية للكنيسة. أي من منابت فكرية بعيدة عن تعقيدات المسألة الشرقية وغريبة عن كنيسة الإسلام ومسيحيي الإسلام. ثم هناك روما أخرى معشّشة في بلاطات بعض المجمع الشرقي المعني مباشرة ببكركي وبلبنان. هنا فتح أحدهم مكتب مقاولات وتسويق. لائحة أسعار لكل شيء. كل شيء يشترى ويباع. بازار مفتوح لكل صاحب مليارات. أكان قادماً من مجاهل أفريقيا، أم ذاهباً في رحلة تكفير عن ثروة مشبوهة، صوب سلطة تصير مشروعة ببركة رسولية… وبين «الرومايين»، ثمة روما ثالثة على بعد أمتار من مقر البطريرك. قاصد رسولي يقيم في حاريصا ولا يلتقي بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق إلا في المناسبات الدينية الكبرى!
كل ذلك لاقى الراعي في الخارج. فيما الداخل لم يكن أقل معاناة وتيئيساً وتثبيطاً. حاول التأليف بين أقطاب رعيته، فصار على حساسية مكتومة معهم جميعاً. سعى إلى قانون انتخاب، فانقلب بعضهم على مواقفه الموثقة أمام عيني البطريرك. توصل إلى اتفاق مع «الرؤساء» في روما، لم يلبث أن تبخر. حتى بدا كأنه قد انقلب هو نفسه على ما كان يريد… حاول ترسيخ آلية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، فطار الرئيس واندثرت الآلية، وبدا له أن الجمهورية نفسها باتت في خطر. حتى كاد يقع في انقلاب على الدستور، للمطالبة ببقاء ميشال سليمان، فراغ أقل من فراغ. رفض تمديدين نيابيين، فأقرهما شركاء الوطن بحماسة لاميثاقية، وبتوقيع من أحصنة مارونية، تتحول في ليلة سوداء طروادية… كان يعتقد أنه لا يزال هناك أمل بشيء اسمه «مجتمع مدني» من قلب رعيته. فطرح الصوت، ليكتشف بضع حلقات منتفعة من أصحاب الجيوب المنفوخة والعقول الضامرة…
ماذا بقي أمام الرجل؟ كل ما هو في معاناة مأساوية. من الاسم حتى الصفة حتى الواجب والرسالة. كيف يكون راعياً والرعية في اللامكان؟ كيف يحمل لقب الغبطة وشعبه في المآسي؟ أي صرح لأي مشرق، وآخر انحسارات كنيسته في آخر جيوب خلافة «داعش»، مشرعة للذبح والسبي؟ لم يبق أمام الرجل إلا الثورة. وأول الثورة صرخة… في الرابية لقيت صرخة الراعي وثورته كل اهتمام وتجاوب وجاهزية ملاقاة. فالقضية مشتركة بداية. تماماً كما الخلفيات والمنطلق والهدف والغايات. من حرية إنسان إلى حقوق فرد وجماعات، انتهاء بسيادة وطن. كلها في مأزق. وكل المشهد اللبناني أمام حائط مسدود، وأمام أفق مقفل. فيما تطورات الخارج تتقدم، وكل ما يفرضه الخارج يكون حتماً لغير مصلحة الداخل. ما العمل إذن؟ كيف السبيل إلى خرق الجدار قبل أن تفرض موازين الخارج معادلاته الجديدة؟ تسأل الرابية: هل الفكرة التي أطلقها الراعي حول استقالة النواب الرافضين للتمديد جدية؟ نحن جاهزون لتنفيذها. من ضمن تصور شامل واضح مفصل ومسبق لمؤدياتها كافة. هل هي مجرد صرخة غضب؟ حسناً، فنذهب إلى آلية ثانية: جلسة انتخاب لرئيس جديد للجمهورية بمرشحين اثنين ممثلين فعليين قويين معروفين لا غير، ومعلنين مسبقاً، بلا ألاعيب من تحت الطاولة، وبلا كمائن غدر دنيئة. فلتكن جلسة عون ضد جعجع، جلسة ترعى بكركي قواعدها، بدءاً بتصديق إعلان المرشحين الوحيدين، وانتهاءً باستعداد بكركي لإعلان الفائز المستحق للرئاسة، إن لم يتمكن أحدهما من نيل 65 صوتاً. تماماً كما أعلن البطريرك أمام أساقفته وأمام مفتي طرابلس ذات مساء.
آليتان كفيلتان بخرق الجمود. والرابية جاهزة لكليهما. والرسالة وصلت إلى بكركي. ولتكن ثورة دستورية ميثاقية، تماماً كما ينشد البطريرك.