رأى البطريرك الماروني مار نصر الله صفير في حديث لمجلة «المسيرة» عشية الانتخابات النيابية في العام 2009، أنّ «احتمال انتقال الغالبية في المجلس النيابي اللبناني من قوى 14 آذار إلى قوى 8 آذار سيترك أخطاراً ذات وزن تاريخي على لبنان»، وأضاف: «إذا انتقل الوزن إلى 8 آذار و14 آذار لم يعد لهم وزن، فإنّ هناك أخطاراً سيكون لها وزنها التاريخي على المصير الوطني».
توفي البطريرك صفير قبل أشهر من اندلاع انتفاضة 17 تشرين ودخول لبنان في الانهيار الكبير، ولم يتسنَ له ان يلمس ولا ان يشاهد بأمّ العين، انّ المعادلة الاستشرافية التي وضعها في العام 2009 دخلت حيز التنفيذ بعد عقد من الزمن في العام 2019، وكنتيجة مباشرة لانتقال الوزن السياسي من 14 آذار إلى 8 آذار.
والأخطار التي تحدّث عنها البطريرك تُرجمت في انهيار مالي غير مسبوق في تاريخ الجمهورية اللبنانية، ومقاطعة خليجية فريدة من نوعها، بسبب تحوّل الدولة اللبنانية إلى غطاء لاستهداف هذه الدول من قِبل «حزب الله» سياسياً وإعلامياً وأمنيًا، وفشل للدولة لا مثيل له حتى في زمن تفكّكها في الحرب الأهلية، وسعي دؤوب لضرب الاقتصاد الحر وتبديل نمط عيش اللبنانيين وتغيير هوية لبنان الثقافية، وتيئيس الناس، إلى درجة انّ الهجرة في السنتين الأخيرتين فاقت نسبتها أسوأ سنوات الحرب.
فانتقال الوزن النيابي – السياسي في بلد مثل لبنان يختلف عن كل دول العالم، لأنّ المسألة لا تتعلق بموالاة ومعارضة وأكثرية وأقلية، إنما تتصل بمواجهة بين مشروعين سياسيين مختلفين جذرياً: المشروع الأول يريد لبنان التاريخي والحضاري والثقافي في ظلّ دولة ودستور وقانون وحياد واستقرار ونمط عيش، والمشروع الثاني لا يؤمن بدولة وسيادة واستقلال وكيان ودستور وقانون واستقرار، ولا يعرف العيش سوى وسط الحروب والعنف وأيديولوجية لا علاقة لها بلبنان.
وقد ثبت عملياً انّه عندما انتقل الوزن النيابي – السياسي من 14 إلى 8 آذار دقّ جرس الانهيار الذي كان بدأ العد العكسي له مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى في مطلع العام 2011، أي انّ هذا الانهيار بدأ مع استلام فريق 8 آذار للسلطة، لأنّ هذا الفريق غير مؤهّل للحكم. إذ كيف يمكن لفريق لا يؤمن بمنطق الدولة والمؤسسات ان يحفظ الاستقرار المالي والسياسي وعلاقات لبنان الخارجية؟
وعلى رغم حدّة الانقسام السياسي في مرحلة الصراع، والمواجهة بين 8 و 14 آذار وما شهدته هذه المرحلة من اغتيالات وتعطيل للمؤسسات وفراغ حكومي ورئاسي، فإنّ الوضع المالي كان تحت السيطرة، لأنّ مفاتيح السلطة التنفيذية كانت بيد 14 آذار، التي على رغم أخطائها وعثراتها، تعرف كيف تدير الدولة وتريد قيامها وتحرص على أفضل تواصل مع المجتمعين الدولي والعربي.
فليس تفصيلاً انّ الانهيار بدأ مع إخراج 14 آذار من حكومات التعايش القسري وتأليف 8 آذار لحكومة اللون الواحد في العام 2011. وليس تفصيلاً أيضاً انّ لبنان انزلق إلى قعر الهاوية مع فوز 8 آذار بالأكثرية النيابية وتأليف حكومات فيها الأكثرية له، قبل ان تتحول حكومات اللون الواحد، ورئيس للجمهورية تخلّى عن وعده بأن يكون الجسر بين 8 و 14 آذار، بانحيازه التام والكامل لدستور مار مخايل على حساب الدستور اللبناني.
وقد يصحّ وصف قول البطريرك صفير بالنبوءة التي استبق فيها كل السياسيين وأصحاب الاختصاص، ودلّت إلى بُعد نظره وقراءته الثاقبة للأمور المرتكزة على خبرته الواسعة ومعايشته للواقع عن قرب، وتبيّن انّ موقفه لم يكن فقط موقفاً سياسياً ربطاً بخلفيته السيادية، وهو البطريرك الذي ساهم مساهمة أساسية في إخراج الجيش السوري من لبنان، إنما يرتبط عضوياً بمعرفته الدقيقة بأوضاع البلد وتوازناته وإدارته.
فلا يُحكم لبنان من فريق سياسي مشروعه أكبر من البلد، ويتعامل معه كساحة من ساحات نفوذه وقتاله، ويتلطّى بمؤسساته لتحصين هذا المشروع، ويسعى لانتزاع أكثريات، وظيفتها تأمين الغطاء لدوره وسلاحه، في سياق توزيع أدوار بين من يمنح السلطة والنفوذ، وبين من يوفِّر الغطاء السياسي لهذا السلاح، وذلك في ظل معادلة تشكّل اختصاراً للدستور وتغييباً للدولة.
ولن يصطلح الوضع في لبنان قبل ان ينتقل الوزن من 8 إلى 14 آذار، والحديث ليس عن 14 آذار الإدارية، إنما بالمفهوم السيادي للكلمة، وبالتالي ما لم تستعد الدولة أكثرية سيادية لا يمكن الحديث عن إنقاذ وخروج من الانهيار لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، لأنّ مبدأ الإصلاح يتناقض مع جوهر مشروع 8 آذار، فالإصلاح يقود إلى دولة، ومشروع هذا الفريق يتنفّس في ظل اللادولة، ويتوسّع على حساب الدولة، وبالتالي الإصلاح غير ممكن في حال واصل هذا الفريق إمساكه بالأكثرية واستطراداً بمفاصل الدولة، ما يعني الاستمرار في دوامة الانهيار والفشل.
السبب الثاني، لأنّ الاستقرار الثابت والفعلي لا يمكن تحقيقه والوصول إليه من دون قيام الدولة التي تبسط سيادتها على كل الأراضي اللبنانية وتُمسك بقراري الحرب والسلم، كما لا يمكن تحقيقه قبل ان ينتقل الصراع في لبنان من صراع وجودي على هوية لبنان ودوره وانقسام عمودي، إلى تنافس سياسي كأي دولة في العالم، يتمحور حول تقديم الأفضل للشعب اللبناني.
السبب الثالث، لأنّ المجتمعين الغربي والعربي لن يقدّما المساعدة التي تعيد تعويم الوضع اللبناني، قبل ان يتأكّدا من انّ هذه المساعدة تفيد الدولة لا الدويلة، ومساعدتهما للبنان تندرج في سياق الحفاظ على استقراره بانتظار التسوية الكبرى في المنطقة مهما تأخّر تحقيقها، لأنّه بعرفهما، الحفاظ على الاستقرار ولو في ظل سيطرة محدودة لـ»حزب الله»، يبقى أفضل من انعكاسات انهيار الوضع اللبناني على لبنان والمنطقة.
فلو استمر التوازن الذي نشأ على إثر الخروج السوري من لبنان لما حصل الانهيار الكبير الذي أحد أسبابه الرئيسية انكشاف الدولة داخلياً وخارجياً، فيما التوازن الذي كان قائماً كان يحفظ حضور الدولة الداخلي بمنع تحولها أداة بيد «حزب الله»، وكان يحافظ على توازن علاقاته الخارجية وتحديداً مع الدول الخليجية التي عندما سحبت يدها من لبنان سحبتها بسبب تحول الدولة إلى غطاء للدويلة التي تستهدفها.
ويبدو انّ الرهان الداخلي والخارجي على إعادة الوضع إلى التوازن الذي سقط مع إسقاط حكومة الرئيس الحريري الأولى، لأنّ التسوية النهائية للأزمة اللبنانية مرتبطة بعوامل داخلية وأخرى خارجية لم تنضج بعد، وبالتالي المطلوب مرحلياً إعادة الاعتبار لدور الدولة في الداخل، في موازاة الحضور الدولي داخلياً، الأمر الذي يعيد وضع القطار اللبناني على سكة التعافي ولو النسبي، كما سكة تعزيز المساعدات الخارجية التي من دونها لا خروج للبنان من الانهيار.
ويبقى انّ نبوءة البطريرك صفير قد صدقت وصحّت، لأنّه عندما انتقل الوزن من 14 آذار إلى 8 آذار انهار لبنان، ولا إمكانية لوضع البلد على سكّة ومسار التعافي سوى بإعادة انتقال الوزن من مشروع 8 آذار السياسي إلى مشروع 14 آذار السياسي.