لم يكن المطران نصرالله صفير قد قابل البابا يوحنا بولس الثاني من قبل على رغم اعتلائه عرش البابوية منذ 16 تشرين الأول 1978. لم تكن لديه رهبة من هذا اللقاء مع البابا الذي سبقته شهرته وقوة شخصيته وإيمانه على رأس الكنيسة الكاثوليكية إلى العالم كلّه. بدا وكأنّ مهمته التي جاء من أجلها إلى عاصمة الكثلكة ستحقّق هدفها. وبدا وكأنّ اللقاءات التي عقدها قد مهّدت لنجاح هذا اللقاء المنتظر الذي سيفتح الطريق أمام علاقة لا تنتهي بين صفير ويوحنا بولس الثاني المولودين في أيار 1920. لم يتردّد صفير في عرض قضية الكنيسة المارونية وقضية لبنان أمام أعلى مرجع ديني مسيحي، وكان مدافعاً بقوة عن وجهة نظره. ربّما لم يضع في حسابه أنّه دخل إلى هذا اللقاء مطراناً وسيخرج منه بطريركاً منتظراً. جاء يبحث عن حلّ ولكنّه لم يكن ليعلم مسبقاً أنّه سيكون قائد هذا الحلّ. وعلى رغم انشغالاته الكثيرة ومواعيده المكثفة لم يفُته أن يدوّن محاضر لقاءاته.
من خلال ما نقله المونسنيور منجد الهاشم عن أجواء أمانة سر الفاتيكان، فهِم المطران نصرالله صفير أنّ هناك استياءً في روما من موقف المطارنة المعترض على تعيين المطران ابراهيم الحلو مدبّراً رسولياً مكان البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش. ولكن هذا الأمر لم يمنع من أن يساهم الهاشم في تسريع موعد اللقاء بين صفير والكاردينال أشيل سيلفستريني أمين سرّ الفاتيكان. ويبدو أنّ لقاءه مع صفير في المدرسة المارونية كان لهذا الهدف. بعدما لمس الهاشم الاستياء لدى سيلفستريني قال له: «المطران صفير في روما. شو رأيك تجتمع إنت وإياه وتحكوا وتشوفوا شو القصة». قال له سيلفستريني: «بكل سرور. بتمنّى». هذا ما قاله الهاشم في لقاء خاص. ولكن اللقاء مع البابا كان أسرع.
سيراً إلى المقرّ الرسولي
يوم الاثنين 27 كانون الثاني 1986 الساعة 12,35 ترك المطران صفير مقرّ المجمع الشرقي واتجه سيراً على الأقدام نحو القصر الرسولي للقاء البابا يوحنا بولس الثاني. كان الحرس السويسري يبادر إلى أخذ التحية، وكان صفير متأبطاً علبة فيها المجلّد الذي يضمّ الرسائل البابوية السبع التي نقلها إلى العربية وكان أصدرها البابا منذ بدء حبريته.
دخل صفير المقر البابوي وأخذ المصعد وقال للمكلّف به أنّ لديه مقابلة خاصة مع قداسته، فدلّه إلى الاتجاه الذي يجب أن يأخذه. كان الحرس واقفين كلّ في مكانه. بعد قليل التقى صفير الحجّاب أمام جناح البابا فبادر أحدهم وأخذ منه العلبة الحمراء وقاده إلى غرفة انتظار بعدما اجتازا عدة غرف كلّها مزدانة السقوف والجدران بالتصاوير وبعضها علّقت على جدرانها صورة أو إثنتان من الصور القديمة.
في تلك الغرفة، جاء مونسنيور، لم يتعرّف صفير إلى اسمه، ودعاه إلى الجلوس قائلاً له: «إن قداسة البابا صعد إلى غرفته وبعد قليل سيعود». كانت الساعة الواحدة إلا ربعاً، وكان الموعد محدداً في الساعة الواحدة. كان يسود المكان صمت يبعث على الرهبة. لا يسمع إلا صوت الماء الساخن يتحرك في المواسير، أو هو صوت الهواء الساخن، وكان الجو دافئاً. والوصف المشهدي للمطران صفير.
عند الساعة الواحدة وخمس دقائق، جاء المونسنيور الذي بدا لصفير من خلال لهجته أنه على الأرجح إنكليزي أو إيرلندي، ودعاه إلى غرفة تقع إلى يمين غرف الانتظار. وبعد دقيقتين فُتِح الباب وجاء المونسنيور عينه منادياً: «المطران صفير»، وهو يتجّه بنظره إلى داخل المكتب.
كان قداسته واقفاً ينتظر
دخل صفير وكان قداسته واقفاً ينتظر. كان ذلك هو اللقاء الأول بين الرجلين اللذين سيرتبط بهما لاحقاً مصير لبنان والكنيسة المارونية. كان صفير يقابل البابا البولوني الأصل الذي أخذ على عاتقه مهمة إسقاط الشيوعية والاتحاد السوفياتي، وكان يضع لبنان على جدول اهتماماته الأساسية. كان ذلك في العام 1986 قبل ثلاثة أعوام فقط من سقوط جدار برلين الذي سيغيِّر وجه العالم، وبعد خمسة أعوام على محاولة الإغتيال التي تعرّض لها في 13 أيار 1981 قبل خمسة أيام من تاريخ مولده الذي يصادف في 18 أيار 1920، هذا التاريخ الذي يجمعه بالمطران صفير المولود أيضاً في 15 أيار 1920.
سلّم صفير على البابا وقبّل يده قبل أن يتحرّك ليجلس إلى كرسي بسيط ويجلس صفير إلى يساره على المستوى عينه من العلو، وكان أمام البابا على طاولة المكتب كتاب فيه خرائط جغرافية ملوّنة.
ابتدأ البابا بالحديث سائلاً: «إنّك قادم من لبنان؟». أجاب صفير: «نعم. وإنّي أعرف مدى اهتمام قداستك بهذا البلد وكم تدعو إلى الصلاة من أجله وكم تتدخّل من أجل تخفيف الضغط عليه». ردّ عليه البابا: «لبنان موضوع اهتمامي الدائم وأفكّر فيه كل يوم. ومستقبل المسيحيين فيه مُهدَّد، ليس بالقتل، بل بالضغط». قال له صفير: «نعم إنّ الحالة تاعسة ولذلك يهاجر المسيحيون». فعلّق البابا مقاطعاً: «فضلاً عن أنّهم لا يُنجِبون وغيرُهم يتوالد كثيراً وهذا خطر».
تابع صفير: «بين 22 بلداً عربياً ليس من حرية دينية إلّا في لبنان حيث المسيحي يمكنه أن يصير مسلماً والمسلم يصير مسيحياً من دون أن يعاقبا قانوناً. وإذا طغى المسلمون الأصوليون نخشى أن يصبح المسيحيون مواطنين من درجة ثانية. وإذا أُلغِيَت الطائفية السياسية بعد عشرين سنة، قد لا يكون هناك نائب واحد مسيحي». سأل البابا: «إن سوريا تريد أن تجعل لبنان بلداً تابعاً؟». أجاب صفير: «هذا هو الواقع».
اللقب للبطريرك والصلاحيات للمدبّر
بعد قليل التفت البابا إلى صفير وسأله: «أنت في (مدينة) صور»؟. قال صفير: «أنا في بكركي مع البطريرك خريش». سأله البابا: «وكيف حال البطريرك خريش»؟ ردّ صفير: «لقد خفّ عنه العمل ولكنّ الحالة خطيرة وتدعو إلى معالجة جذرية. فالبطريرك له اللقب والمدبّر له الصلاحيات، والظرف يقضي بأن يكون هناك بطريرك يتّخذ موقفاً حازماً ويتحمّل مسؤولياته». أجاب البابا: «أجل. البطريرك أصبح شيخاً طاعناً ويقتضي أن يكون هناك مسؤول أفتى منه، لذلك يجب أن يكون مطارنة جدد».
قال صفير: «البطريرك خريش رَقّى في عهده تسعة مطارنة وهم اليوم 19 مطراناً وبإمكانهم أن ينتخبوا بطريركاً». فقال البابا: «إن هذا الأمر هام وسأحدّث الكاردينال أوغيستينو كازارولي عن الأمر. ومنذ يومين زارني لبناني مسلم وطالب بهذا الأمر». فقال له صفير: «نعم إنّه الأستاذ محسن سليم، وهو شيعي وقد أخبرني بذلك». علّق البابا: «هناك مسلمون وطنيون مخلصون». سأله صفير: «هل تلقيت قداستك الكتاب الذي رفعه 11 مطراناً يطلبون فيه الإذن بانتخاب بطريرك»؟ أجاب البابا: «نعم اطلعت عليه». تابع صفير: «هذا هو الرأي الذي أبداه كلّ المطارنة المقيمين في لبنان وسوريا، أما مطارنة المهجر فلم نستطع الاتصال بهم». فقال البابا: «يجب إيجاد رجل قوي يتحمّل المسؤولية ويمكنك أن تخبر هناك أنّي مهتم بالأمر، والحديث يؤثّر أكثر من الكتابة».
كان البابا يشير في ذلك إلى أنّ الحديث الذي تبادله مع صفير كان مؤثّراً أكثر من الكتاب الذي رفعه المطارنة إليه. تابع صفير الكلام: «إني أشكر لقداستك استقبالك إياي على الرغم من ضيق الوقت الذي تعدّ فيه لسفرك إلى الهند، وإنّي أصلّي من أجل نجاح زيارتك». تبسّم البابا وقال: «أجل الهند. الهند». وضغط على زر أمامه، فحضر المصوِّر المونسنيور الذي استقبل صفير. وكان صفير قد نزع الورقة الحمراء التي لفّ بها العلبة الدمشقية التي وضع فيها المجلد الأبيض الذي يضم رسائل البابا السبع، وكان في العلبة كتاب وقّعه ويشرح فيه أنه سعيد بأنّه نقل إلى العربية هذه الرسائل التي قدّمها إلى قداسته. ألقى البابا نظرة على الكتاب الموقّع منه وأخذ المجلّد بيده وقال: «هذه هدية ثمينة أشكرك شكراً جزيلاً عليها. وهي تستحق هدية ثمينة».
عند ذلك جاء المونسنيور وبيده مغلّفان أبيضان وعلبة حمراء فيها مسبحة. وفيما كان البابا يسلِّم صفير الهدية كان المصوّر يلتقط الصور التي جاءت معبِّرة عن تلك اللحظات. أمّا المغلفان، فالكبير منهما فيه كتاب عن 14 رحلة لقداسته إلى الخارج، والثاني فيه 10 مسابح و15 صورة موقّعة من البابا. قبّل صفير يد البابا وودّعه، وفيما كان يخرج من اللقاء حانت منه نظرة أخيرة إلى البابا الذي كان لا يزال يلتفت إليه مبتسماً. قاده المونسنيور الذي أدخله المكتب إلى الخارج وودّعه باحترام. من ذلك الباب خرج صفير مطراناً وإليه سيعود بطريركاً.
يتبع الأربعاء 5 حزيران 2024
المقابلة الحامية مع سيلفستريني: إنتخاب بطريرك قبل انتخاب مطارنة