“قلنا ما قلناه”. ذاك التصريح الشهير، كأنه نطق به عشية أسلم الروح قبل عام ليختصر مسيرة حياة وشخصية لم تشهد إلا للحق، ولم تعاند إلا لإحقاقه من أجل لبنان.
وعلى هذا المنوال كان لكلّ مقامٍ مقال منذ أوفى بالنذور وعلّم وترجم وكتب وسِيم كاهناً ومطراناً وبطريركاً، إلى يوم تطلّبت تسوية الطائف رجالاً يتصدرون لقبولها حقناً للدماء. أما يوم ثَقُل عبء الوصاية على صدر البلاد فكان “النداء”، وصولاً الى “ثورة الأرز” التي استلهمت من نبضه الشجاعة والاصرار.
كان مِثل أسلوبه. سهل ممتنع. ظلّل “قرنة شهوان” بعدما حفرت خطب الآحاد بإبرة الصمود، في الأيام السود زمن النفي والاعتقال، مكاناً لتلك النواة التي تفتّحت يوم 14 آذار. وبهذا الإنجاز فتح الباب لكلّ لبنان كي يخطفه من الموارنة ويطوّبه بطريركاً للسيادة والاستقلال.
قبل عام بالتمام، على فراش النزع الأخير، بدا وكأنه ذاهب في رحلةٍ إلى موعدٍ آخر في البعيد، لم يشعرنا بحزن الفراق بقدر شعورنا بفرح القيامة والرجاء، وكأنه قال للبنانيين: ليكن لديكم أمل بضوء في نهاية النفق، مثلما أنا أتّجه نحو النور الأبدي. هذه سفينتي تصل إلى شاطئها الأمين.أستودعكم أحلامكم في بناء لبنان جميل.
قبل عام، اختصر الرجل المبتسم في آخر نفَس له قرناً من الزمن. وكأنّ الشخص الذي ولد مع إعلان “لبنان الكبير” أدّى ما وسِعَه تاركاً لنا ذخيرة للذكرى المئوية لهذا الإعلان. ذخيرة تنضمّ إلى ذخائر بطاركة موارنة أعلام طبعوا تاريخ هذه البلاد ومهّدوا لقيام دولة الاستقلال، وأكّدوا دائماً أنّ الموارنة صنو الحرية وعصب الشراكة في الكيان.
“لا نعلم متى يأتي السارق”. وهو أتى قبل عام، ربما ليوفر على البطريرك المهجوس بحب شعب لبنان رؤية بلاد تنهار بفعل طغمة الفساد قبل الوباء. يومذاك لم يأخذه على حين غرة. كان حاضراً، ليس بفخامة جلاله، بل بمهابة تواضعه، وليس بالفخر المنجز في مسيرته الكهنوتية والوطنية بل بإمّحاء عطائه، وليس بتاجٍ استحقّه بل بمحبةٍ خالصة لم يبخل بمنحها بركة لشعبٍ بأسره. كان حاضراً لتلك اللحظة بإيمانه العميق بأنّ دعوته أتمّت مهمّتها وبأنّ رسالته وصلت إلى من انتُدب لأجلهم وإلى من اختاره شاهداً له في هذا المكان، ليشعّ بألق الحرية ويعطى له مجد لبنان.
في ذكراك هذا العام، وفي كل عام. باقِِ شعلةً في ضمير لبنان