لم يكن قد شاع بعد خبر تقديم البطريرك مار نصرالله بطرس صفير استقالته من منصبه أواخر العام 2010 في الفاتيكان. ولكنّ أحد أصدقائه القلائل القريبين منه، وحائزي ثقته التي نادراً ما يعطيها لأحد، زاره بعد عودته من روما وعلم منه بالأمر. فسأله عن السبب. لم يكن الأمر سرّاً. فقد كانت تكاثرت التسريبات التي تتنبّأ بأنه سيستقيل من ضمن حملة كانت تستهدفه في موقعه بسبب تشبّثه بمواقفه.
لم يجد البطريرك صفير حرجاً في تفسير خلفية ما ذهب إليه. لم يكن هناك ضغط عليه ليتقدّم باستقالته. فقد كان يحظى باحترام كبير لدى الكرسي الرسولي انتقل من قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى البابا بندكتوس السادس عشر. كان صفير يطوي عامه التسعين وكان لا يزال بصحة جيّدة ولكنّه لاحظ أن ذاكرته كانت قد بدأت تضعف. قال لزائره اللصيق إنه خائف من العمر ومن غزو النسيان وإنّ صورة ما حصل في البطريركية المارونية آخر أيام البطريرك أنطون عريضة يقلقه، وإنّه يفضّل أن يترك الكرسي لغيره وأن يعود “الخوري” نصرالله صفير لأنه إذا لا سمح الله وضعفت ذاكرته وخانته، عندها سيقول الناس أن الخوري نصرالله صفير خرِف وليس البطريرك صفير. كان حريصاً على سمعة الصرح أكثر من سمعته. وحتى رحيلِه الأخير كان لا يزال يحتفظ بذاكرته وإن لم تكن كاملة.
منذ غادر منزله العائلي في ريفون طفلاً ليسلك طريق الربّ والكهنوت لم يلتفت إلى الوراء. مضى إلى قدره وهو مدرك ما ينتظره من مصاعب وتضحيات أعانه إيمانه الكبير على حملها ولو ناءت تحت ثقلها كتفاه.
الصبي الذي ولد في 15 أيار 1920 ارتسم كاهناً في 7 أيار 1950 وانتقل إلى الأب السماوي في 12 أيار 2019. لم يسمح له العمر بالإحتفال بمئوية لبنان الكبير الذي شاء القدر أن يكون من عمره، وربما من حسن حظه أنه غادر قبل أن يشهد هذا الإنهيار الكبير للبنان، وكأنّه ايضاً أضاع ذاكرته كوطن ويصارع حتى لا يفقد دوره الذي نشأ من أجله.
أميناً على الأسرار
منذ العام 1956 عندما دخل إلى بكركي أميناً لسر البطريرك مار بطرس بولس المعوشي لم يخرج صفير منها. بقي أميناً للسر وحافظاً للأمانة حتى آخر يوم من حياته. هو الذي كان يمسك القلم كل ليلة ليدوّن في يومياته أسرار البطريركية ويكتب تاريخها بالوثائق والتفاصيل، وكأنّه كان نذر نفسه لمثل هذه المهمّة ليكون أهمّ مدوّن للمذكرات ولليوميّات وللقاءات والأسرار.
عايش البطريرك المعوشي في قوته وفي خلافه مع الرئيس كميل شمعون الذي بقي دائماً مثلاً يحتذي به ويطمح لتكون صورته مطبوعة في التاريخ مثله وكان له ذلك. وعايشه أيضاً في خلافه مع الرئيس فؤاد شهاب. وعايش البطريرك أنطونيوس خريش خصوصاً في مرحلة الحرب حيث كان مكلّفا من قبله بالكثير من المهمّات، لعلّ ليس أقلها أهميّة لقاءاته الكثيرة مع أركان الجبهة اللبنانية والرئيسين سليمان فرنجية والياس سركيس. وربما كانت تدويناته عن تلك المرحلة من أهمّ ما كتب عنها لأنه سجل المحاضر كاملة كما هي باعتبار أنها كانت للحفظ وليس للنشر.
عاصر صفير كاهناً ومطراناً وبطريركاً 13 رئيساً للجمهورية. بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو وسليمان فرنجية والياس سركيس وبشير الجميل، وأمين الجميل ورينيه معوض والياس الهراوي وأميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. لم يكن على صدام مع أي منهم لأسباب شخصية أو سياسية بقدر ما اختلف مع العماد ميشال عون، في مرحلة ترؤّسه الحكومة العسكرية في العام 1988 وشنّه الحروب العسكرية، التي كانت في أساس الذهاب إلى الطائف وتعديل الدستور من أجل الخروج من الحرب.
دخل مطراناً وخرج بطريركاً
لم يخطط المطران صفير ليكون بطريركاً. عندما جرت الإنتخابات البطريركية في نيسان 1986 لم يكن اسمه من بين الأسماء المطروحة. ولكنّه كان قبل ذلك قد أثبت حضوره في الفاتيكان كما في بكركي. في تشرين الثاني 1985 توجّه البطريرك خريش إلى روما للمشاركة في احتفال إعلان الأخت رفقة طوباوية في احتفال يترأّسه البابا يوحنا بولس الثاني. هناك تمّ إبلاغه رغبة الكرسي الرسولي بأن يكون هناك مدبر رسولي في بكركي يقوم بمهام البطريركية على أن يحتفظ هو بموقعه التمثيلي فقط، وسمِّيَ المطران ابراهيم الحلو لهذه المهمّة. في كانون الثاني 1986 كان المطران صفير يتوجّه إلى الفاتيكان للقاء البابا يوحنا بولس الثاني حاملًا ملف اعتراض مجلس المطارنة على قرار تعيين الحلو. لم يجد المطارنة المعترضون غيره للقيام بهذه المهمة. قبل ذهابه كان قد تبلّغ من المدبر الرسولي أن عليه أن يختار مع المطران رولان أبو جودة مكاناً آخر غير بكركي. في روما التقى صفير رئيس مجمع الكنائس الشرقية وشرح له خلفيات الإعتراض وضرورة انتخاب بطريرك جديد. وفي اللقاء مع قداسة البابا بقي متمسّكاً برأيه ونصحه بأن يتمّ انتخاب بطريرك جديد قبل تعيين مطارنة جدد، حتى لا يقال أن الفاتيكان عيّن المطارنة لانتخاب البطريرك الذي يريده. في ذلك اللقاء دخل صفير مطراناً وخرج بطريركاً في 19 نيسان 1986.
آن الأوان ونداء أيلول
بقي البطريرك الجديد مقيماً في سرّ كهنوته وتواضعه ولكنّه بقي أيضاً متمسكاً بإيمانه وبمواقفه التي تعبّر عن الروح التاريخية للمطارنة الموارنة ولذلك الخط التاريخي الذي مثّلته بكركي. لا شكّ في أنّه كان أمام مهمّة شاقّة وكبيرة وخطيرة وأنّ كثيرين ما كانوا يتوقّعون له أن ينجح وأن يكون على قدر المرحلة، ولكنّه خيّب آمالهم وأثبت أنه الحلقة الأقوى التي لا تنكسر في السلسلة البطريركية المارونية. هكذا كان في مرحلة الطائف عندما تصدّى لخطر استمرار الحرب وهكذا كان في مواجهة عهد الوصاية متصدّيا لخطر استتباع لبنان. بقي ذلك الصوت الصارخ في ليل النظام المستسلم لتلك الوصاية. انتظر حتى أيلول 2000 ليطلق ذلك النداء الشهير الذي قال فيه أنه آن الأوان لخروج جميع الجيوش الأجنبية من لبنان بعد خروج الجيش الإسرائيلي. يروي المطران منجد الهاشم أنه كان مطراناً لمنطقة دير الأحمر في تلك المرحلة عندما زاره رئيس فرع المخابرات السورية في عنجر رستم غزالة، طالباً منه نقل رسالة باسم رئيس النظام السوري الجديد بشار الأسد إلى البطريرك صفير يطلب فيها قيام أفضل علاقة مع بكركي. انتقل الهاشم من دير الأحمر إلى الديمان لإبلاغ صفير بما أراد أن يوصله إليه غزالة. قرأ صفير الرسالة ووضعها على الطاولة. سأله الهاشم ماذا أقول له؟ قال له صفير: قل له أنه سيسمع الجواب يوم الأربعاء، أي يوم اجتماع المطارنة الموارنة. وكان ذلك النداء الذي أسّس لثورة الأرز ونهاية الإحتلال السوري للبنان. كبر النداء ليشكل التقاء ثلاثة اقوياء البطريرك صفير مع لقاء قرنة شهوان و”القوات اللبنانية” والرئيس رفيق الحريري ورئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط، وكانت مصالحة الجبل وبداية تكوّن الحالة المعارضة.
عندما اغتيل الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 كان البطريرك صفير يدرك خطورة المرحلة وأبعاد عملية الإغتيال. من بكركي تمّ نعي الحريري شهيداً للبنان. صحيح أن البطريرك صفير لم يمشِ في عملية المطالبة باستقالة الرئيس إميل لحود، ولكنّه كان حريصاً على موقع الرئاسة أكثر من حرصه على موقع الرئيس الذي “يجب ألا يخجل مستقبله من ماضيه”.
في العام 2007 كنا نسجّل معه مذكراته من أجل فيلم وثائقي عن مسيرة حياته. سجّلنا معه في بكركي وفي الديمان. ولكن بسبب التطورات السياسية والأمنية قبل أحداث أيار 2008 توقف التسجيل. في الديمان تسنّى لنا الدخول إلى الجناح الذي كان ينام فيه. هناك كانت أغراضه الخاصة القليلة وغرفة نومه ومكتبه الصغير، الذي لا يتسنّى للكثيرين الدخول إليه ذلك أنه كان يستقبل زواره في الصالون الكبير. كان في تلك السنة لا يزال يستخدم الكرسي والمكتب الذي كان يستخدمه البطريرك عريضة وغرفة النوم نفسها والسرير العتيق نفسه. كان يطيب له أن ينزل إلى تلك الصخرة المشرفة على وادي قنوبين وأن يصطحب بعض زواره إليها ليحكي لهم عن سرّ استمرار الموارنة. وكان يحبّ أن ينزل إلى ذلك الوادي كل عام في عيد السيدة العذراء في 15 آب مستعيناً بعصا من خشب وهو الذي كان ويبقى بطريركاً من ذهب.
12 ايار 2020 عام على غيابه ومئة عام على حضوره. عاش فقيراً ومتواضعاً وبقي كبيراً ومتواضعاً. خط واحد يربط بين ذلك الخوري وذلك البطريرك. أنه خط بكركي التاريخي والمجد الذي أعطي له