IMLebanon

الديكتاتور وحرب التحرير

 

أسرار الطائف كما رواها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير

 

 

لم يبدأ اتفاق “الطائف” في 30 أيلول 1989 مع وصول النواب اللبنانيين إلى تلك المدينة الهادئة في المملكة العربية السعودية. قبل هذا التاريخ كانت لذلك الإتفاق مقدمات كثيرة وتحضيرات وأوراق راحت وجاءت وتعديلات واقتراحات حملها أكثر من وسيط بين العواصم اللبنانية والسورية والسعودية والفرنسية. ولكن ما حصل أنه بعد حرب التحرير التي أعلنها العماد ميشال عون رئيس الحكومة العسكرية وبعد النتائج الكارثية على المناطق الشرقية وعلى الوضع في لبنان كان الوقت قد حان كي تعبر هذه التعديلات الدستورية التي كان من الممكن أن تكون قد أقرّت في شباط 1976 مع الوثيقة الدستورية التي أعلنها الرئيس سليمان فرنجية بعد زيارته دمشق ولقائه رئيس النظام السوري حافظ الأسد. بين 30 أيلول وآخر تشرين الأول تزامن وجود النواب اللبنانيين في الطائف مع وجود البطريرك صفير في روما. منذ ما قبل هذه المرحلة كان البطريرك قد واظب على تدوين الأحداث ومحاضر اللقاءات التي أسست للطائف كأنه كان يدرك ضخامة الحمل الملقى على عاتقه. فالطائف لم يكن أبدا من خياراته.

 

14 آذار، السفير المتشائم

 

يوم الثلاثاء 14 آذار 1989، إستقبل البطريرك صفير في بكركي السفير الإيطالي دانيال مانشيني. “بدا متشائماً أكثر من أي وقت مضى”، هكذا كتب صفير عن اللقاء في يومياته. وأضاف: “قال إنه كان مع العماد ميشال عون ليكون رئيساً للجمهورية، ولكنه ابتدأ يراه غير ملائم للظرف الحالي لأنه ذو مزاج عسكري، ولا يُحكم لبنان عسكرياً. وتساءل كيف السبيل الى مساعدة لبنان لإخراجه من محنته؟ فقلنا له: “هناك قرارات أُتخذت في مجلس الأمن بإخراج القوى الغربية من لبنان، فلتُنفذ”.

 

كانت مواقف البطريرك صفير ثابتة حول هذا الموضوع ولم تتبدّل أبداً. منذ انتقلت السلطة الى حكومة العماد ميشال عون في قصر بعبدا في 23 أيلول 1988، لم يتوانَ عن المطالبة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية ورفض كل الطروحات التي كانت تدعو للتقسيم أو لبقاء الوضع كما هو في ظل حكم الحكومتين: حكومة الرئيس العماد ميشال عون في المناطق الشرقية، وحكومة الرئيس سليم الحص في المناطق الغربية. كان قلبه على لبنان. هذا الهمّ كان رفيقه الدائم في الإتصالات التي كانت بدأت تجرى معه منذ دعوته الى المشاركة في اللقاءات العربية في تونس والكويت من أجل إيجاد حل للأزمة اللبنانية.

 

لم تكن العلاقة جيدة بين البطريرك صفير و”القوات اللبنانية”، ولم يكن موافقاً على أن يبقى العماد ميشال عون متسلّماً السلطة في بعبدا. لذلك كان للتطورات التي حصلت منذ ذلك اليوم الأثر الكبير في اقتراب المواقف بينه وبين “القوات”. من بكركي عاش أزمة المعركة المحدودة التي شنها العماد عون على “القوات” في 14 شباط 1989 بعد عودته من إجتماعات تونس. وكان همّ البطريرك ألا تتكرر تلك الأحداث، وأن يشارك في المساعي لوضع حد للإنقسام والخروج من حال الحرب. لذلك تحوَّل الى نقطة جذب واستقطاب للباحثين عن مخارج وحلول ومخزن للأسرار، كأنه جالس في كرسي الإعتراف التي تسمع وتحفظ وتسجل، وسيطاً بين أهل الأرض والسماء.

 

دبلوماسية صفير وعسكرية عون

 

في 6 آذار 1989، زار صفير العماد عون في قصر بعبدا. في هذا اللقاء إستمع من عون الى وجهة نظره حول العلاقة مع “القوات اللبنانية” ومعركة 14 شباط، وحول اقتراحات الحلول التي يمكن طرحها في اللقاءات في الكويت، والتي كانت تتمحور حول الإنتخابات والإصلاحات والإنسحابات، وهي المواضيع الذي بقيت مطروحة وشكلت العناوين الرئيسية التي قام عليها إتفاق الطائف. في هذا اللقاء أبلغ عون البطريرك أنه أمر غرفة العمليات بمراقبة الموانئ غير الشرعية ومنع البواخر من التوجه إليها.

 

في ذلك اليوم، في 14 آذار، وبعدما كان البطريرك إستقبل أيضاً رئيس الرابطة المارونية شاكر أبو سليمان بعد السفير الإيطالي، إندلعت “حرب التحرير”. عن تلك اللحظات كتب صفير: “تأزم الوضع وقصف الإشتراكيون المرفأ ورد ميشال عون على القصف، وكان تراشق مريع وقع من جرائه أربعون قتيلاً ومائة وخمسون جريحاً. وعقد العماد عون مؤتمراً صحافياً أعلن فيه بدء معركة التحرير من سوريا، ونعت الجيش السوري بالمحتل، لا بل بأبشع محتل. وكان قد أصيب مكتبه في وزارة الدفاع في اليرزة. وقد أطلقنا نداء لوقف إطلاق النار”.

 

في اليوم التالي، إستقبل صفير جورج سعادة وداني شمعون وشاكر أبو سليمان الذين كانوا عائدين من لقاء مع العماد عون، وسألوا البطريرك عما إذا كان من المناسب جمع النواب المسيحيين ورؤساء الأحزاب المسيحية لدعم موقف عون. بعد التداول رأى صفير أن يتم إعداد بيان وعرضه عليه قبل أي إجتماع، “بحيث لا يكون بمثابة إعلان حرب على سوريا، على ما قاله العماد عون، ولكن يجب أن يكون تأييدًا له إنما بعبارات دبلوماسية، أو تأكيد موقف بشأن سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه وإخراج القوى الغريبة من أرضه”. تلك كانت بدايات العلامات الفارقة بين دبلوماسية صفير الهادئة والمتماسكة وعسكرية عون المتهوّرة والمتقلّبة. هذا ما عبّر عنه صفير في اليوم التالي أمام بطرس حرب عندما تساءل عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه عون وعن وجوب وضع حدّ للتأزيم. قال له حرب إن عون لم يكن ممتناً لقوله في النداء لوقف إطلاق النار «سواء كان السلاح شرعياً أم غير شرعي».

 

عن إجتماع النواب ورؤساء الأحزاب علّق صفير: «تبيّن لنا أن تأييد العماد عون تأييداً سافراً فيه مخاطر، وتركه لوحده ينطوي أيضاً على مخاطر».

 

مكارثي: عون يريد أن يصبح رئيساً

 

تقييم صفير للوضع المتفجّر لم يكن بعيداً عن الموقف الأميركي. في اليوم نفسه، 16 آذار، كان يستقبل السفير الأميركي جون مكارثي وقد لخص موقفه على النحو التالي:

 

1 – موقف العماد عون رائع وجريء لكنه خطر. وهذا ما قاله له هذا الصباح عندما زاره ونقل إليه نصيحة الحكومة الأميركية بالتزام التروّي.

 

2 – العماد عون قال له: إذا ضربه الإشتراكيون أو جهات وطنية داخلية، فسيرد على السوريين لأنهم أصل البلاء.

 

3 – الحكومة الأميركية ترى الوضع خطيراً، وتنصح بالإعتدال وبأن يتضافر المعتدلون اللبنانيون.

 

4 – ترى الحكومة الأميركية أن يقوم تعاون بين العماد عون والدكتور سليم الحص.

 

5 – الحكومة الأميركية لا يمكن أن تفضّل عون على الحص، وهذا هو موقف سفيرها، ولا يمكنها أن تتجاهل أن الحص يحكم ثلاثة أرباع البلاد، وإن بطريقة غير دستورية.

 

6 – العماد عون يريد أن يصبح رئيساً للجمهورية ويلزمه تأييد القوى الفاعلة.

 

7 – نائب وزير الخارجية إيغل برغر قال بطريقة غير رسمية جواباً على سؤال طرحته عليه نائبة أميركية كانت في سوريا، إذا خرج السوريون من لبنان فستزداد الحالة سوءاً. ولكن موقف الحكومة في النهاية إعادة البلاد الى حالة طبيعية وإخراجها من وضعها بإخراج الجيوش الغريبة.

 

8 – يميل الى الإعتقاد أن الجيش اللبناني هو من قصف الغربية فأوقع ثمانية عشر قتيلاً، وليس هناك برهان على أن السوريين هم الذين قصفوا.

 

9 – ولما قلنا له: “إن الحالة المأسوية ستدفع بالسكان، وخاصة المسيحيين، الى الهجرة، فهل هذا ما يريده الغرب والولايات المتحدة؟” قال: لا يمكننا أن نسيطر على الوضع. إن أميركا قوة عظمى ولكن ليس في لبنان. كانت الهواجس مشتركة بين السفير والبطريرك. في 6 أيلول 1989 سيضطر مكارثي الى إخلاء السفارة الأميركية في عوكر، بعد تسيير تظاهرات مؤيدة للعماد عون إليها ومحاصرتها. وفي 6 تشرين الثاني سيضطر البطريرك صفير الى مغادرة بكركي بعد إقتحام المتظاهرين المؤيدين لعون الصرح البطريركي والإعتداء على سيِّده.

 

شظايا على قرميد الصرح

 

ليلة 22 آذار 1989، كان القصف السوري على المناطق الشرقية عنيفاً جداً. “كانت ليلة ليلاء”، كتب البطريرك صفير. إبتداء من التاسعة أبتدأت الراجمات والمدافع السورية تمطر المناطق الشرقية بوابل من القنابل. وكانت الإستفزازات قد بدأت منذ يومين، وكان السوريون يتعمدون شل الحياة الاقتصادية والإجتماعية في المناطق الشرقية، فيطلقون بعض القذائف في الصباح والظهر والمساء. فيُحجم الناس عن الإتيان بأي حركة. وأقفلوا المعابر. واشتد القصف الكلامي بين الإذاعة السورية التي دعت الى تنحية العماد عون عن السلطة، فردّ بوجوب تنحية الأسد عنها… وكانت القنابل تنفجر في محيط بكركي، فيسمع وقع الشظايا على قرميد الكرسي البطريركي، واضطر معظم الكهنة الى اللجوء الى “قاعة المائدة” لقضاء الليل.

 

في نهار ذلك اليوم، كان صفير يتصل بالعماد عون يستوضحه ما آلت إليه الأمور، فأجابه أن “أوساط الغرب كانت غير مبالية بالقضية اللبنانية، أما الآن فقد أصبحت متحمسة لتحريره، وأن الحصار البري الذي فرضه السوريون سيؤذي المنطقة الغربية أكثر من الشرقية، وأن المؤونة من الطحين كافية، وأن الوقت قد حان، بعد أربع عشرة سنة من العذاب، للخلاص. وإذا حصل تراجع يضيع كل أمل لنا بالخلاص”.

 

في 30 آذار، بعد سقوط قذائف داخل الصرح البطريركي، زار الدكتور سمير جعجع البطريرك صفير برفقة جورج عدوان وروجيه ديب، وأبلغه أنه عسكرياً مع الجنرال ويحارب معه السوريين ولا يسأله عن الخيار السياسي الذي أخذه. كما صفير، كذلك كان موقف “القوات” محرجاً وهي تراقب مسار معركة عسكرية لم يكن لها رأي في اندلاعها ولا في خلفيات الموقف السياسي للعماد عون الذي كان قبل أيام من حرب التحرير لا يزال يركّز هجومه على “القوات”.

 

قوي وليس ديكتاتوراً

 

يوم الثلاثاء 18 نيسان، إستضاف البطريرك صفير في بكركي إجتماعاً عاماً حضره 23 نائباً مسيحياً. بعد ست ساعات صدر عن اللقاء بيان يدعو الى وقف إطلاق النار بحيث يضمنه الجيش اللبناني في المناطق الشرقية والجيش السوري في مناطق سيطرته. مساء ذلك اليوم كان العماد عون يهدّد بتكسير رأس حافظ الأسد: “كل شيء تكسر في لبنان إلا رأس حافظ الأسد سنكسره. وسيكون لبنان مقبرة له ولنظامه”.

 

هذا الكلام كان كافياً ليتوقف عنده البطريرك صفير معلّقاً بخط يده: “هل أصبح الصراع شخصياً بين الأسد والعماد عون؟” وكان كتب عبارة “الرئيس” قبل الأسد لكنه عاد وخرطش عليها. وأضاف: “هذه لغة غير مألوفة بين من يتحمّلون مسؤولية حكم في أي بلد”. كانت هواجس البطريرك في محلها. فقد اعتبر عون أن البيان الصادر عن لقاء بكركي يساوي بينه وبين السوريين. بعد يوم واحد كانت التظاهرات المؤيدة له تتوجه الى الصرح البطريركي ويهتف أنصاره: “بدنا بطرك لبناني ما بدنا بطرك سوري”. البطريرك صفير شبّه هذه التظاهرات بتلك التي كانت تؤم بكركي أيام البطريرك المعوشي وتلقبه باسم “محمد المعوشي”، أو أيام البطريرك خريش وتنعته بالفلسطيني. وقد كتب أنه “تبيّن أن وراء هذه التظاهرات إستخبارات الجيش”، معتبراً أن الجنرال عون سبقها باتهام الكنيسة بالخوف من قول الحقيقة والنواب بالخيانة “وكأنه يريد أن يلغي آخر مظهر من مظاهر الديمقراطية في لبنان”.

 

كانت تلك بداية إفتراق كبير بين البطريرك والجنرال. في 23 نيسان كان عون يعلن: “لا لزوم لنواب ما دام هناك شعب وأرض وقائد”. وكان صفير يرد عليه في عظة الأحد: «الشعب اللبناني لا يرضى عن النظام البرلماني بديلاً”.

 

هواجس صفير لم تكن مجرد شعور شخصي. في 24 نيسان أعرب أمامه السفير الإيطالي عن مخاوفه تجاه التصلّب من قبل عون، معتبراً أن النازية بدأت هكذا. وبعد يوم كان القائم بأعمال السفارة البرازيلية يبلغه بعد لقائه عون أنه “ذاهب الى النهاية، وكأنه يريد أن يقيم نظاماً عسكرياً بإلغاء المؤسسات الدستورية، وأن هذا النظام جلب على البرازيل ومعظم دول أميركا اللاتينية الويلات، وأن الوضع في لبنان يحتاج الى رجل قوي ولكن ليس الى ديكتاتور».

 

من هذه الخلفية، كان صفير يعلن في 28 نيسان أمام وفد من المحامين: “موقفنا وموقف عون واحد وهو تحرير لبنان من كل القوى غير اللبنانية، ولكن الطرق مختلفة. طريقتنا الحوار وطريقة العماد عسكرية، ونحن لا يمكننا أن نقول بالحرب والضرب والتدمير والقتل وسفك الدماء، لكننا نريد تحرير وطننا”. وفي اليوم التالي كان يبلغ العقيد عامر شهاب الذي زاره موفداً من عون «أن العودة الى حكم المكتب الثاني مرفوضة، وأن انتخاب رئيس لا بد منه”. بينما نقل إليه شهاب أن “للعماد عون شطحات يجب ألاّ تُعار أكثر مما يجب من الأهمية، وهي صادرة عن ثورة غضب، أكثر مما هي صادرة عن حسابات مسبقة”.

 

وضع البطريرك صفير عبارة “شطحات” بين مزدوجين، وهو الذي لم تأخذه أي موجة غضب كان يخشى آثار “غضب الجنرال” من دون أن يكون لديه حسابات مسبقة. وكان عليه أن يعمل لاحتواء مفاعيل هذه الشطحات، بينما كان ينتظر زيارة الأخضر الإبراهيمي مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي، ليبدأ مشوار الرعاية العربية للخروج من الحرب والتأسيس لاتفاق الطائف.

 

يتبع: الإبراهيمي والحسيني والحريري