لم يعمل المطران نصرالله صفير على أساس أن مهمّته في روما انتهت بلا نتائج. لم تكن تلك هي النهاية بل البداية لمرحلة جديدة لم يتصوّر أنّه سيكون بطلها وقائدها. هو المطران الذي كان يبقى دائماً في الظلّ، تولّى باسم المطارنة الموارنة أصعب مهمة بين كنيسة لبنان وكنيسة روما. هناك تحدّث عن معاناة المسيحيين في لبنان وفي الشرق من دون أن يدري أن هذا الصليب سيلقى على كتفيه حتى يتولى هذه المهمة في أصعب مرحلة. رسم في الفاتيكان خريطة طريق للخروج من الأزمة وكان قدره أن يكون سيّد بكركي لتنفيذ هذه الخريطة. وكان على قدر الحمل والمسؤولية إلى الحد الذي صار معه بطريرك الإستقلال الثاني الذي حرّر قرار بكركي، بهدوئه وعمله الصامت والصاخب أحياناً وحفر الجبل بإبرة.
في 14 نيسان 1986، إلتأم مجلس المطارنة الموارنة لانتخاب بطريرك جديد في بكركي. في الدورة السادسة، وبعدما توزّعت الأصوات بين المطرانين، المدبّر الرسولي ابراهيم الحلو ويوسف الخوري في الدورات الخمس السابقة، تم انتخاب المطران صفير بطريركاً في 19 نيسان 1986. كان انتخابه مخرجاً لانقسام الأصوات بين المدبّر الذي كان حظي بمباركة فاتيكانية بعد تكليفه بهذه المهمة، وبين المطران الخوري الذي كان التقى المطران صفير في الفاتيكان مبدياً رغبته في أن يكون هو البطريرك الجديد.
بعد انتخابه ألقى صفير «عظته» الأولى بطريركاً: «أوليتموني شرفاً أثيلاً وحمّلتموني صليباً ثقيلاً. إنتخبتموني ولستُ بألمعكم ولا بأعلمكم… إنّي أعرف أنّي ضعيف. لكنّني أعرف في الوقت عينه ما يقوله الرسول وهو إنّي قوي بقوة من يقوّيني. قوّتي بالله الذي أرفع إليه آيات الشكر معكم. قوّتي بالكنيسة التي لا يزال رأسها المنظور قداسة الحبر الأعظم… إنّني قوي بكنيستنا المارونية. إنّكم حمّلتموني صليباً ثقيلاً تنوء كتفاي بحمله. لكنّني واثق من أنّكم ستحملونه معي، صليب الإيمان، صليب المسيحية في هذا الشرق، صليب المارونية التي أُلصِق بها ولا يزال يُلصق بها ما هي منه براء».
كأنّه بطريرك دائم
طوال 25 عاماً حمل صفير هذا الصليب ولم يتعب. لم يكلّ ولم يملّ، حتى صار تاريخ وجوده في بكركي كاهناً ومطراناً وبطريركاً جزءاً من تاريخ لبنان. عندما اعتبر الفاتيكان أنّ البطريرك خريش بات طاعناً في السنّ وسعى إلى انتخاب بطريرك خلفاً له، كان عمر خريش 75 عاماً.
عندما زار قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لبنان في أيار 1997، كان عمر البطريرك صفير 77 عاماً، ولم يتحدّث أي كان عن أنّه كان طاعناً في السنّ. كان لا يزال في عزّ عطائه وفي قلب المهمة التي أوكلت إليه من أجل إنقاذ لبنان، وقد نفّذ هذه المهمة بكل ما أوتي به من قوة ذلك الإيمان الذي تحدّث عنه يوم انتخابه.
اقتضت المرحلة أن يبقى صفير بطريركاً كامل المواصفات حتى صار عمره 91 عاماً، وكان لا يزال في قمة عطاءاته أيضاً. نشاطات يومية. قداس الأحد والعظة التي تحاكي الروحانيات والوضع السياسي وتوجيه الرسائل في كل الاتجاهات. استقبالات عادية. جولات. زيارات. تدوينات يومية للأحداث. بقي يعمل وكأنّه بطريرك دائم وكأنّ حبريته محكومة بالاستمرار ولا يحدّها عمر ولا زمن. طوال 25 عاماً تحمّل الكثير ولم يتمكّن أحد من تسجيل أي نقطة ضعف أو تخاذل أو تراجع في سجله أو مأخذ. بقي بطريركاً فوق الشبهات. بطريركاً كبيراً. تاريخياً. لا يلين. لا يساوم. بقي ضمير لبنان. معه عاد القرار إلى ساحة بكركي حيث قاد معركة استعادة استقلال لبنان، وحيث أطلق نداء المطارنة الموارنة في أيلول 2000 مطالباً بسحب الجيش السوري من لبنان بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي. معه كانت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان، ومعه ما كان الفاتيكان يحتاج إلى التدخل في أمور الكنيسة المارونية.
إستقالة وعودة إلى الظل
في أواخر العام 2010 بدأ يتسرّب إلى العلن ما كان البعض يحاول أن يحكي عنه في السرّ. كان كثيرون يتساءلون عن سرّ استمرارية البطريرك في بكركي على رغم بلوغه عتبة الواحدة والتسعين من العمر من محبتهم له ورغبة منهم في أن يبقى بطريركاً دائماً. بينما كان آخرون يتمنّون أن تنتهي سنين حبريته وينتظرون تلك اللحظة بعدما عجزوا طوال أعوام عن محاولة التأثير فيها. وحده صفير كان يمتلك حرية القرار وتوقيته.
في تشرين الأول 2010 خلال انعقاد سينودس أساقفة الشرق في الفاتيكان، عُقد لقاء في مقر إقامة البطريرك صفير في المدرسة المارونية في روما ضم إليه وإلى عدد من المشاركين في السينودس الكاردينال ترسيزيو برتوني، أمين سر دولة الفاتيكان، والكاردينال ليوناردو ساندري، رئيس مجمع الكنائس الشرقية، ويُقال إنّه في ذلك اللقاء جرى حديث مع البطريرك صفير حول استمرار بقائه بطريركاً من باب ربط المسألة بالعمر وليس من باب البحث عن البديل.
في تلك المدرسة بدأ صفير مهمته إلى الفاتيكان في العام 1986 وحمل قضية بكركي إلى البابا يوحنا بولس الثاني. من تلك المدرسة أيضاً ستبدأ قضية البحث عن مرحلة ما بعد البطريرك صفير.
في آخر تشرين الثاني 2010 إختمرت المسألة عنده. هو أيضاً كان بدأ العمر يُتعِبه. وبحكم سعة شعوره بالمسؤولية وبأنّ أكتافه قد تنوء بهذا الحمل الذي حمله، وحتى لا يداهمه المرض وهو بعد في سدة البطريركية، بادر إلى توجيه كتاب إلى الفاتيكان يتمنّى فيه على قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر قبول استقالته. لقد بدأ طريق حبريته بكتاب سلمه إلى البابا يوحنا بولس الثاني، وهي توشك على الانتهاء أيضاً بكتاب يرسله إلى البابا بنديكتوس. وكان هو الرابط بين الكتابين بفارق 25 عاماً.
بين الأبونا والبطريرك
لم تنشر أي معلومات عن هذا الكتاب وعن الرغبة بالاستقالة. أراد صفير أن تبقى المسألة محاطة بالكتمان. كان يريد أن يترك سدّة البطريركية بصمت، وقال لبعض المقربين منه: «من الأفضل أن أتنحى وأنا بكامل وعيي وقدراتي». وقال أيضاً لأحد هؤلاء السيد خطار الحدثي الذي كان يزوره في شكل دائم ويصلّي معه: «إذا خَرِفت وكنت لا أزال بطريركاً سيقولون البطريرك خرِف أو البطرك «خرفان». أما إذا صرت «ضيِّع» بعدما أترك سدّة البطريركية لن يُقال إلّا أن الأبونا صفير عم يضيِّع أو خرفان». كان حريصاً على سمعة بكركي والبطريركية أكثر من سمعته هو. كان يهمه الموقع أكثر مما يهمه شخصه.
في 23 شباط 2011 كان من المفترض الاحتفال في روما برفع الستارة عن تمثال مار مارون في ساحة بازيليك القديس بطرس من دون أن يكون تم اتخاذ قرار بعد بقبول استقالة البطريرك صفير أو رفضها. وكان البطريرك ينتظر هذا القرار لمعرفة ما إذا كان سيشارك في هذا الاحتفال وهو بعد في هذا المنصب، أم بصفة بطريرك مستقيل، أم بصفة بطريرك سابق. شاءت الإرادة الفاتيكانية أن تؤخّر هذا القرار حتى ما بعد هذا الاحتفال الذي كان آخر احتفال يشارك فيه البطريرك صفير في روما، حيث أنّه كان من الأفضل أن يحتفل هو بهذا الحدث. وهكذا حصل. فقد أزاح البابا بنديكتوس السادس عشر الستارة عن التمثال في ذلك اليوم بحضور صفير ورئيس الجمهورية ميشال سليمان، قبل أن ينتقل الجميع إلى كنيسة القديس بطرس ليترأس صفير القداس الاحتفالي ويلقي عظة بعنوان «لا تخف أيها القطيع الصغير»، وكأنّه كان يدرك أنه يوجّه رسالته الأخيرة من تلك الكنيسة التي لا يترأّس فيها الذبيحة الإلهية عادة إلا بابا روما.
قبول الإستقالة
في 26 شباط 2011 أعلنت أمانة سر البطريركية المارونية في بكركي أن صحيفة «أوبسرفاتوري رومانوا» الناطقة بإسم الكرسي الرسولي نشرت في عددها الصادر اليوم أن قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر وجه كتاباً إلى غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير يعلن فيه قبول الاستقالة التي كان تقدّم بها، ومما جاء في نص الكتاب: «لقد اخترتم وقررتم بملء حريتكم تقديم استقالتكم من مهامكم كبطريرك للطائفة المارونية في هذا الظرف الخاص، فإنّي أقبل قراركم، وإنّي على ثقة أنّكم ستواكبون دائماً الكنيسة المارونية بالصلاة والحكمة والنصح والتضحيات».
صدر هذا البيان يوم السبت. يوم الأربعاء في 2 آذار 2011 ترأس البطريرك صفير «المستقيل» للمرة الأخيرة الاجتماع الشهري للمطارنة الموارنة. ذلك الاجتماع الذي شكل صدى لبيانات حملت روح البطريرك صفير وشخصيته. في ذلك الاجتماع دعا صفير مجمع المطارنة إلى انتخاب بطريرك جديد للطائفة المارونية. عندما انتُخب صفير كان عدد المطارنة الذين انتخبوه 18 مطراناً. عندما كان يسلِّم الأمانة كان صار عددهم 39. في 15 آذار 2011 تمّ انتخاب المطران بشارة الراعي البطريرك السابع والسبعين للطائفة المارونية بعد 13 دورة اقتراع على مدى خمسة أيام. لم تكن خلافة البطريرك صفير مسألة بسيطة وعادية. بعد انتخاب البطريرك صفير خلفاً للبطريرك خريش بقي الأخير في الجناح المخصص له في بكركي حتى وفاته في 19 آب 1994. منذ آذار 2011 استمر البطريرك صفير في الإقامة في جناحه الخاص في بكركي، وعلى رغم بلوغه التاسعة والتسعين بقي من يزورونه يعتبرون أنّه لم يصبح بعد طاعناً في السن، وأنه سيبقى حاضراً في الذاكرة وفي التاريخ.
في 12 أيار 2019 قبل ثلاثة أيام من دخوله عامه المئة، انتقل البطريرك صفير إلى عالمه السماوي ليستقرّ بين يدي الله. هو الذي كان يعيش في عالم سماوي على الأرض، بقي يشكّل هذا الرابط بين الأرض والسماء. وكما عاش في بكركي منذ العام 1956 أميناً لسر البطريركية والبطريرك مار بطرس بولس المعوشي، ومطراناً وبطريركاً، رقد على رجاء القيامة في المدفن الخاص بالبطاركة في بكركي بعد احتفال ديني كبير جمع حول نعشه كل الذين أحبّوه وقدّروه وآمنوا بصلابته وعنفوانه وقوة إيمانه وهدوئه وتواضعه.