Site icon IMLebanon

بطريركيات

 

1– «القادومية»

 

كان الجوّ حاراً في وادي القديسين: حرارة الإيمان وحرارة الشمس. أبكرنا في النزول الى الوادي سيراً على الأقدام. وكان غبطة البطريرك نصر الله صفير يتقدم المسيرة معتمراً القبّعة البيضاء وفي يده عصا (…) شخصياً لست من البارعين في قطع هكذا مسافات بهكذا وعورة طرقات. فالطريق الذي درج غبطته، ومرافقوه، على سلوكه مشياً يصح فيه وصف «القادومية». أي الطريق المباشر من المقر البطريركي الصيفي في الديمان الى عمق هذا الوادي الطبيعي الرائع الذي وصفه الأديب القاص الكبير الفنان الرسّام المبدع المرحوم يوسف يونس بأنه «الثلم الأزلي» الذي شقته سكة الطبيعة، وذلك في روايته الشهيرة «مسبحة الراهب» التي فازت بجائزة أهل القلم للقصة الطويلة.

 

(…) بعد الاستراحة وما تخللها من صلاة وطعام كان لا بدّ من الرجوع. وكان في ظني أننا سنعود في قافلة سيارات الى أن اكتشفت أن غبطته لن يمتطي  إلا قدميه. فقلت لذاتي: لا بأس، نحاول. فإذا كان نيافته يستسهل الأمر بما بينه وبيننا من فارق في السنّ، فلا بدّ أن يكون في متناولنا. وأعترف بأنّها أمتار معدودة في سلوك تلك «الطلعة» العصيّة حتى بدا  عليّ الإرهاق… وخطر لي أن أبحث في جعبتي عن قصص ونوادر قد يكون غبطته مستأنساً بالاستماع إليها فأتوقف عن السير  عند كل رواية بما يعطيني جرعة زخمٍ  لأستأنف المسير.

 

أوقفتُ المسيرة مرة أولى ثم ثانية، ومن ثم حاولت أن أوقفها ثالثةً، فضحك غبطته من أعماقه، رحمه الله، وقال لي: كشفت لعبتك، فتوقف عن هذا الأسلوب واتلُ علينا نوادرك ونحن نسير!

 

وأدركت أنني دخلت في الاستحالة، فاستأذنت بأن أعود الى الوادي (ولم نكن قد اجتزنا إلاّ مسافة قليلة)… فعدتُ أعقابي، واستقليت السيارة طلوعاً.

2- «أبو فرّاعة»

 

وتلك منطقة في جرد الديمان حيث الماء والخضراء في أبهى التجلّي. وكان غداءٌ لشباب البلدة الناهضة الميامين وضيوفهم، وتصدّر المائدة المثلث الرحمة المطران رولان أبو جودة الذي غادرنا قبل أيام معدودة من رحيل «بطريرك الاستقلال الثاني»  وهما اللذان تجاورا في بكركي والديمان طوال عقود عديدة، ليتجاورا في دنيا الحق والخلود.

 

كانت المرحلة مأساوية بسبب الخلاف فالحرب بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية… وكان موقف غبطة البطريرك داعماً القوات.

 

وساء أبا جودة الخلافُ الحاد الذي نشب بين بعبدا وبكركي، فندب نفسه  الى وساطة بين القصر والصرح. وتوجه الى بعبدا وعرض الأمر على الجنرال ميشال عون (قائد الجيش، رئيس الحكومة الانتقالية) قائلاً: يا دولة الرئيس لم يعد جائزاً أن يستمر  هذا الخلاف مع بكركي… وأضاف أبو جودة: قاطعني الجنرال عون وقال لي: سلملي على غبطته، وقل له: لا أطلب شيئاً فقط عندما يتحدث الى الاعلام ألاّ يقول «المسلحون من الطرفين» فليقل زعران الجيش وأوادم القوات ولكن غير مقبول أن يسمّي العسكر بالمسلحين».

 

قال أبو جودة: اعتبرت زيارتي ناجحة جداً، وقلت للجنرال: القصة بسيطة! وما إن وصلت الى بكركي حتى قصدت البطرك وأخبرته بنتيجة مهمتي، فلم يعلّق إنما اتصل بالخوري ميشال عويط (امين سر البطريركية في حينه الذي بدوره رحل قبل أسابيع رحمه الله) وقال له: ادعُ الصحافيين لان لدي ما أعلنه أمامهم. وعندما تجمع المراسلون الصحافيون رحّب بهم غبطته واستهل حديثه بالقول: «إن المسلّحين من الطرفين»!