لم تحسم زيارة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى باريس الضبابية السائدة، إزاء الموقف الفرنسي من ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. وفيما يبدو أن كل ما صدر عن الزيارة محاط بالسرية ويؤشر إلى متابعة المباحثات بواسطة قنوات جانبية، عكست تغطية وسائل الإعلام اللبنانية لها التجاذبات الحادة والوضع المأزوم فوق العادة في لبنان، وأن أطراف المعارضة والموالاة يفصل بينهم بحر عميق. الموقف الفرنسي الرسمي المعلن لم يتغير، بينما كل وسيلة إعلامية تفسره بحسب هواها السياسي، ويصعب كثيراً على البطريرك أن يضع فيتو على زعامة مارونية شمالية كفرنجية تمثل شريحة وازنة من أبناء الطائفة، وهو رأس الكنيسة المارونية التى ترعى جميع أبنائها.
النتيجة أن الزيارة بحسب المعلن الرسمي لم تكسر الاستعصاء الحاصل كما كان يؤمل منها، ولعل أبرز أسباب ذلك هو عجز البطريرك عن نقل موقف مسيحي جامع، في وقت تردد الأطراف المسيحية المعارضة توصلها إلى توافق حول مرشح واحد، وهذا غير صحيح، كما يؤكده البيان الذي صدر عن اجتماع «التيار الوطني» ورئيسه جبران باسيل بحضور رئيس الجمهورية السابق ميشال عون. جاء في البيان «التأكيد على المسار المتفق عليه… لجهة التوافق مع المعارضة على مرشح يتمّ الإعلان عنه بعد تحديد الاحتمالات واكتمال المشاورات… وتأمين أوسع تأييد نيابي له على قاعدة التوافق وليس الفرض… إن انتخاب رئيس جمهورية ونجاحه في هذه المرحلة يتطلّبان توافقاً وليس تحدياً من أحد ضد أحد»، ما يعني أن المعارضة المسيحية بخاصة، وباقي مكونات المعارضة، غير متفقة على مرشح واحد. ولكن ثمة أمل…
ندرك أنه لا يجوز تحميل البطريرك أكثر من طاقته، كما ندرك أن موقعه كمرجعية مارونية مسيحية يملي عليه اتخاذ موقف محايد من أبناء الطائفة. لكن البطريركية لعبت عبر تاريخها أدواراً سياسية محورية نقلتها من مرجعية طائفية إلى مرجعية وطنية جامعة.
هذا الموقع يحفزنا على رسم سيناريو متخيل: ماذا لو استفاد البطريرك من لقاء الرئيس الفرنسي وذهب إلى فرنسا مع وفد لبناني جامع يضم شخصيات وازنة ممثلة لكل الأطياف والطوائف في المعارضة من دون التوقف أو الدخول في التفاصيل البروتوكولية التي تترافق مع تشكيل الوفود، بل تخرج عن السياق التقليدي لتعبر عن المخاطر الوجودية التي تهدد الكيان اللبناني. وفد يجمع إلى البطريرك مفتي الجمهورية، إذا أمكن أو من ينتدبه، ورؤساء جمهورية وحكومات سابقين والقيادات الحزبية، أو من يمثلها من كل الطوائف والأطياف المعارضة، ما يؤهلها لنقل رؤية وطنية جامعة تمثل رغبة غالبية اللبنانيين في أن يحكموا بلدهم بأنفسهم دون وصاية أجنبية أياً كانت، وتؤسس لإعادة بناء البلد وفق اتفاق الطائف بالفعل هذه المرة.
لو تحقق هكذا لقاء، لبات هذا الوفد هو المحاور الشرعي مع جميع الدول المؤثرة العربية والأجنبية، والممثل لغالبية اللبنانيين والقادر على مواجهة مشروع «حزب الله»، وإعادة التوازن إلى الحياة السياسية، ما يفتح الطريق أمام تسويات واقعية بعيداً عن الغلبة والتسلط. وينبغي التأكيد على ضرورة التمييز بين «حزب الله» والطائفة الشيعية في لبنان التي من سماتها الاعتدال والوسطية.
المطلوب من فرنسا وغيرها المساعدة عليه كثير، وينبغي أن يتجاوز مسألة انتخاب رئيس للجمهورية على أهميتها، إلى حقيقة وصلب الأزمة اللبنانية التي بدأت بازدواجية السلطة والقرار لتصبح تسلط فريق واحد على مفاصل الدولة كافة، والسعي إلى استعادة الدولة قرارها والتمسك بالعيش المشترك بعد سقوط الثوابت التي يجمع عليها اللبنانيون جراء وجود الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق الدولة وسطوتها على العملية السياسية وصناعة القرار.
والمطلوب أيضاً مساعدة لبنان ليتمكن من اجتياز هذه الأزمة – المحنة عبر منع أي انهيار أمني ناتج عن استمرار التوتر الحاصل في الحياة السياسية يعكر السلم الأهلي، سواء بواسطة جهات داخلية أو خارجية تعيد خلط الأوراق وتدخل لبنان دوامة الحرب الأهلية مجدداً رغماً عن اللبنانيين. إن الطروحات المغامرة بدأت تطل برأسها، تقابلها ممارسات وفتاوى جماعات متطرفة نقلت أفكارها وممارساتها من المستوى السياسي إلى الجوانب الأخرى من حياة الناس.
كذلك منع تفاقم الانهيار المالي والاقتصادي الذي، إذا حصل، قد تصل تداعياته إلى أخطر من الانهيار الأمني، ويهدد هذه المرة بشكل حاسم ما تبقى من التجربة اللبنانية.
الإشكالية في هذا الطرح تكمن في صعوبة جمع هذا الوفد في لبنان، فكيف خارجه وليحمل رؤية موحدة؟ إذا صح ما يردده هؤلاء من أن لبنان يواجه خطراً وجودياً، تسقط كل الحجج والخلافات، ولكن إذا استمروا في تعنتهم فعلى لبنان الذي نعرفه السلام. مثل هذا اللقاء الجامع والعابر للطوائف وحده قادر على معالجة معضلتين هما في صلب وهن القوى المعارضة لـ«حزب الله» ومشروعه: الانقسام المسيحي والشرذمة في الطائفة السنية، وقد يشكل أيضاً رافعة للقوى الشيعية المناهضة للحزب.
هاتان المعضلتان تفسران جانباً من الموقف الفرنسي الذي يؤيد وصول فرنجية، مرشح الثنائي الشيعي، إلى رئاسة الجمهورية، لكن ثمة غايات أخرى لدى باريس لن نسقطها من الحساب قد تكون مرتبطة بمصالح نفعية مع طهران وقضايا أخرى مرتبطة بالغاز وشركات النفط وغيرها. وموقف فرنسا لا يتناقض غالباً مع سياسات دول أخرى معنية بالشأن اللبناني. فرنسا وغيرها من الدول ليسوا جمعيات خيرية.
لكي نستعيد لبنان لا بد من أن ينطلق الجهد من الداخل أولاً. فالأنظار تتجه نحو المعارضة المؤلفة من نسيج من كل التيارات والطوائف والشرائح الاجتماعية، كي تبلور مواقف واضحة تكسر الحلقة المفرغة التي ندور فيها. ليس المطلوب عجائب أو معجزات، بل رؤية لبنانية عابرة للطوائف لاستعادة الوطن أولاً وقبل أي شيء آخر، يحملها بطريرك الموارنة وكل من لديه ذرة حكمة ووطنية.