في إطلالته التلفزيونية الأخيرة سئل العماد ميشال عون عن «التيار الوطني الحر» الذي ينتظر استحقاقه الداخلي منذ سنوات، بعدما سبق له أن وعد بإجراء الانتخابات في 23 أيار الماضي، بعد سلسلة مواعيد جرى وضعها في سلة المهملات، فاكتفى بالقول قاطعاً الطريق أمام متاهات الإجابات «اسألوني بعد الخامس من حزيران».
يومها كان الرجل شبه متيقّن من أنّ المعركة التي يخوضها لإطاحة العماد جان قهوجي وترفيع العميد شامل روكز الى رأس الهرم العسكري، ستنتهي لمصلحته وسيكون له ما يتمناه. لهذا ضرب موعداً جديداً للعونيين كي يعيد فلش أوراق «التيار» أمامه وتوضيبها وفق الاعتبارات المستجدة.
عملياً، لم يكن أحد ليتوقع من الجنرال أنّ يحدد في تلك اللحظة تاريخاً جديداً للاستحقاق الداخلي بعد التأجيلات المتتالية، لا سيما أنّ القناعة صارت راسخة أنّ الخلاف الواقع حول النظام الداخلي وكيفية صياغة موازين القوى داخل «التنظيم البرتقالي» في ولادته الثانية، والذي أرسلت نسخة عنه الى وزارة الداخلية، عرقل مسيرة المأسسة وفرملها مرة أخرى.
وبالفعل، فقد حصل ما كان منتظراً. قيادة «التيار» عادت وسحبت النظام الداخلي من وزارة الداخلية، ليس من باب تنقيحه من الأخطاء اللغوية، لا بل بهدف إعادة تعديله وفق ما تشتهيه سفن الوزير جبران باسيل. إذاً، فاز الرجل هذه المرة أيضاً في «معركته» الداخلية، وكان له ما يريد.
صحيح أنّ الخلاف ليس مستجداً وسبق لباسيل أن حاول تسيير المركب وفق رغباته خلال رحلة صياغة النظام الداخلي، وتحديداً في ما يتعلق بالمكتب السياسي تكويناً وصلاحيات، ولكن رغبة الجنرال بالحفاظ على التوازن داخل «الجسم البرتقالي»، دفعته يومها للإمساك بالعصا من الوسط وترك هامش واسع من الحراك الديموقراطي في القيادة لمرحلة ما بعد ميشال عون.
يمكن بالأحرى القول، إن الجنرال كان منسجماً مع نفسه في هذه النقطة بالذات ومقتنعاً بأن التضامن داخل «البيت العوني» هو خشبة خلاص «مولوده الفتي» لا سيما أن التجارب المعاكسة في الأحزاب التاريخية أثبتت فشلها.
عملياً، كان جبران باسيل يفضل أن يكون المكتب السياسي معيناً من جانب الرئيس وليس منتخباً، يكون للرئيس فيه حصة الأسد، من المساعدين وليس المشاكسين، وتكون هذه الحصة ذات صفات استشارية لا تقريرية، ليكون مطلق الصلاحيات، بمعنى غياب الصوت الاعتراضي الفعلي في الدائرة التنفيذية، على أن يتولى المجلس الوطني مراقبة أدائه ومحاسبته، على اعتبار أن السيناريو المناقض سيحوّل المكتب السياسي الى «شريك مضارب» للرأس في ما لو لم يتجانسا في الرأي وتباينت وجهات النظر، في حين أنه يفضل حصر السلطة بشخصه.
ولهذا كان يضغط لتكون معظم صلاحيات السلطة العليا، وتحديداً تلك التي مُنحت للمكتب السياسي، بيد الرئيس بحجة تحرره ومنحه هامشاً أوسع من الحركة، على اعتبار أنّ السلطة الرقابية الممنوحة للمجلس الوطني كافية لمساءلته.
طبعاً، للفريق المعارض وجهة نظر مختلفة، وهي تقوم بشكل أساسي على تكريس الممارسة الديموقراطية في السلطة فعلاً لا قولاً، لا سيما أنّ التجارب الحزبية في الدول الديموقراطية المتطورة تتجه أكثر نحو الشراكة الموسعة في القيادة والتخفيف من منسوب التفرّد في القرار والتسلط. ويتخوف هذا الفريق من إلغاء الديموقراطية داخل المكتب السياسي صاحب الصلاحية في وضع سياسة الحزب ومناقشة اليوميات التي تواجهه، بينما رقابة المجلس الوطني لا تحصل الا مرة كل أربعة أشهر عند التئامه، ما يحدّ من سلطته الرقابية.
ولكن يبدو أنّ الجنرال تراجع عن موقفه تحت ضغط باسيل ومال لوجهة النظر الأولى، تلك التي تعطي جبران في حال نجاح سيناريو ترؤسه لـ «التيار»، سلطات «ملكية». ولهذا تمّ سحب النظام الداخلي من وزارة الداخلية لإعادة صياغة بعض بنوده، لا سيما تلك المتصلة بالصلاحيات، والعمل على تحويل بعضها، وتحديداً الجوهري منها، من المكتب السياسي الى رئيس الحزب لضمان «سيطرته» على التركيبة الحزبية.
حتى الآن لا تزال الضبابية قائمة، ولم يحسم الجنرال الجدل. ولكن سير الأمور يشي بأنّ التعديل سيحصل قبل تحديد موعد جديد للانتخابات التي ستجري على هذا الأساس.
هكذا يتداول العونيون موعداً جديداً لاستحقاق، الانتخابات حيث من المرجح حصولها، في ما لو رسا النظام على التعديلات المقترحة من دون أي اعتراض، في ايلول المقبل، وذلك ربطاً بالتطورات السياسية وتحديداً المتصلة بالتعيينات العسكرية.
ثمة من يعتقد أنّ الجنرال مقتنع أنه سينجح حينها في إيصال روكز الى قيادة الجيش، وعليه سيدفع بباسيل الى قيادة «التيار»… ليعلن تقاعده السياسي.
في المقابل، فإنّ هذه التعديلات، في ما لو حصلت، فإنّها لن تمنع الفريق المعترض، الذي سيحاول تطويق هذا المسعى لمنع حصوله، من الانغماس في المعركة الانتخابية المنتظرة. بمعنى أنه في حال أصرّ الجنرال على اجراء هذه التعديلات، فإنّ ذلك لن يدفع المعارضين الى مقاطعة الانتخابات او التمرد عليها، وانما سيخوضونها بسخونة.
أما جديد التطورات الداخلية فهو احتمال انكفاء العماد ميشال عون عن الترشح للرئاسة بعدما كان قد وعد بالترشح خلال الفترة الانتقالية لقيام الحزب بانتظار أن تقف المؤسسة الحزبية على أرض ثابتة، فيفتح باب المنافسة بين أبنائه لتبوء المركز الأول.
ولكن يبدو أنّ الجنرال في صدد تغيير استراتيجيته ليجلس جانباً، وكل ذلك في سبيل تمكين جبران باسيل من الوصول الى رأس الهرم وتثبيت قدميه.. فهل سينجح؟ وكيف سيتصدى المعارضون لهذا السيناريو؟