يحتاج المرء، في ضوء دورة العنف الجديدة بين إسرائيل و«حماس»، للكثير من السذاجة كي يتحدث عن السلام، أو هكذا يبدو الأمر.
فالسلام بمعناه التقني حتى، متوقف منذ ما يفوق العقد، دعك عن السلام بما هو آليات تطوير مصالح مشتركة وأفق مشترك نحو المستقبل. ولا تملك الجهات المعنية أي قيادات حقيقية مراهنة على السلام. أما الرئيس محمود عباس فصدى لماضٍ مضى، بلا أي حيوية سياسية أو رؤية في إدارة مصالح الشعب الفلسطيني.
ستنتهي هذه الجولة بابتذال جديد لمفردة الانتصار… سيحصي بنيامين نتنياهو عدد الأبراج التي هدمها وعدد الكوادر الحمساوية التي قتلها، وعدد الصواريخ التي اعترضتها القبة الحديدية، وسيلقي الضوء على حرص فصائل محور المقاومة أن تتجنب الانزلاق إلى مواجهة من لبنان وسوريا وربما اليمن ليكون دليلاً على نجاح الردع الإسرائيلي وحملاته التأديبية الماضية. في المقابل ستتوسع «حماس» ومعها كل قادة فصائل المحور، لا سيما حسن نصر الله، في تدبيج الخطب التي تؤطر هذا النصر المؤزر وتعيد تقديمه للرأي العام على ولائم التعبئة، والتهيئة لجولات مقبلة. سنسمع الكثير عن المدى الذي بلغته الصواريخ وفشل القبة الحديدية، وتعطيل مطار بن غوريون ودورة إنتاج الغاز وصور الرعب على شواطئ تل أبيب… والأهم الأهم سنسمع الكثير عن سقوط الصواريخ في القدس!
ابتذال تام لفكرة النصر والانتصار عند الطرفين، وتغييب شامل عندهما أيضاً لفكرة السلام، التي سيبدو أن المُطالِب بها ساذج أو متواطئ. هذا الإنجاز المشترك الأبرز لجولة العنف الأخيرة. يصعب ألا يفكر المرء بمدى الخدمات المتبادلة التي يؤديها كل من نتنياهو و«حماس» لبعضهما البعض. حين وافق رئيس الحكومة الإسرائيلية على آلية تمويل «حماس»، مستقيلاً في الوقت نفسه من كل آليات العملية السلمية، كان يعلم أن جزءاً من التمويل سيذهب ولا بد إلى تطوير الصواريخ. لكن هدف تعميق الانقسام بين الضفة والقطاع تغلب على أولوية الأمن الإسرائيلي! وحين بدأت «حماس» بإطلاق الصواريخ على إسرائيل كانت تعلم أن الرد سيكون أقسى بما لا يقاس أو يطاق. لكن أولوية المزايدة للإمساك بورقة الرأي العام الفلسطيني تغلبت على أولوية سلامة أهل غزة أو حتى سلامة عرب إسرائيل ممن طالتهم وقتلتهم بعض صواريخ «حماس»!
حاجة كل منهما للآخر تكاد تكون استراتيجية، لضرب أي أفق حقيقي للسلام الفلسطيني الإسرائيلي.
بيد أن توسيع العدسة خارج بؤرة النزاع، والنظر إلى المواقف الدولية والشعبية حول العالم، يفيد بأن أنصار السلام أكثر بكثير وأوضح بكثير من أي وقت مضى. يُلاحظ أن ثمة تمدداً لخطاب اليسار الدولي، من هوامش الخطاب السياسي حول المشكلة الفلسطينية، إلى متنها، وبحساسية حقوقية رفيعة، وإن كان هذا الانتقال يحمل معه أجندات وتوصيفات الحد الأقصى، التي تصل إلى حدود المناداة بلا شرعية إسرائيل من أساسها كدولة، أو تكثيف الدعوات لمعاملتها كنظام فصل عنصري، في مقابل إسقاط تام لأي مسؤولية تترتب على السلوك الجهادي الانتهازي لـ«حماس» أو الفشل السياسي لمحمود عباس وعموم منظومة أوسلو.
إنه عالم ما بعد «جورج فلويد»، الأميركي من أصول أفريقية الذي قتله شرطي أميركي خنقاً، إذا صح التعبير، بمعنى عالم باتت فيه «قوة التعاطف» أو «power of empathy» قوة مقررة في المسارات السياسية وتشكيل الرأي العام، وسلاحا فتاكا بيد فتية الأرض ممن يحملون هواتف صغيرة وقلوباً بحجم السماء، عطلت قسوة اللوبيات وانتهازية الإعلام «الماين ستريم» والنقاط العمياء المصاب بها المحلل السياسي والاستراتيجي في الغرب.
ظني أن وطأة الجلافة الإسرائيلية في التعامل مع مشكلة غزة خارج أي استراتيجية سياسية يعزز هذه القسمة التي تحمل كامل المسؤولية لإسرائيل وتسقط كامل المسؤولية عن الفلسطينيين. لكنه ملمح عابر ينتهي مع انتهاء أعمال العنف، ليعود الاعتبار لا للقضية المركزية فلسطينياً ولا لآيديولوجيا اليمين الصهيوني الراغب في قتل ودفن حل الدولتين، بل ليعود الاعتبار للسلام كأفق وحيد لإنهاء آلية العنف المتجدد بين الطرفين. هذه فرصة عربية ومسؤولية عربية لا سيما عند معسكر السلام العربي ممن طبع وممن أجل التطبيع لاستحقاقات مستقبلية.
أميركياً هناك خطاب جديد، داخل الحزب الديمقراطي، وبين عموم النخبة الأميركية، سيجد نقاط توازنه مع هدوء عاصفة القتل والدم والتدمير. وفي العالم العربي، الأوسع من «سوشيال ميديا بيروت وضواحيها»، هناك حصانة بينة ضد الانجراف نحو خطابات عاطفية صرفة، تتغذى من خليط من الوقائع والأكاذيب والأضاليل وتتسلى بانتصارات وهمية وبوعود كاذبة للفلسطينيين لا وظيفة لها إلا تعميق المأساة وإطالة أمد المعاناة…
كان يمكن توقع الحمل الثقيل للتطورات الأخيرة على مسار السلام الجديد بين أربع دول عربية وإسرائيل، بيد أن حجم الجرائم التي ارتكبت ضد السوريين والعراقيين والفلسطينيين على أيدي أنظمة وميليشيات عربية، قلص حجم الجريمة الإسرائيلية على فداحتها، وأبقى، ولو بالتوازي معها، مساحة واسعة للسياسة والتفكير السياسي من دون حرج كثير…
سيكتشف نتنياهو أن الاستعراض بالغارات وكثافتها و«كفاءة التدمير» لن تشكل له في الخلاصة انتصاراً حقيقياً. وستعيد «حماس» اكتشاف أن «المقاومة» كبديل عن الحلَّين السياسيين في الداخل الفلسطيني وفي الخارج مع إسرائيل وبرعاية عربية أوروبية أميركية، هو بديل مكلف، يرسخ كامل المشروع النضالي الفلسطيني كورقة بيد إيران…
في المقابل فإن لمحور السلام العربي شريكاً في واشنطن، والاثنان معاً قادران على بلورة رؤية لإعادة تحفيز مشروع التسوية وفرضها على أطراف النزاع التي ما قدمت للفلسطينيين والإسرائيليين إلا الموت والدمار والصواريخ. إنها فرصة للتأكيد أن الاتفاق الأهم لأمن المنطقة واستقرارها، ليس الاتفاق النووي مع إيران، بل الاتفاق على إعادة إحياء أفق السلام وسحب الورقة الفلسطينية من يد إيران وجماعات التطرف السياسي والديني الإسلامي واليهودي.
وهنا ملاحظة أخيرة. معسكر السلام العربي يقاتل بشراسة ضد الإسلام السياسي، ومن غير المسموح أن يظل العالم يتعامل بتسامح مع «اليهودية السياسية» التي يمثلها المستوطنون بوصفها تياراً سياسياً في الحياة الإسرائيلية لا أكثر ولا أقل…
ما لم يكن السلام ممكناً الآن، وضرورياً الآن فمتى يكون؟