IMLebanon

مئوية الأرمن والسريان… وجلجلة مسيحيّي الشرق

قبل أيام من عيد الفصح المجيد، شاركتُ في ندوة تحت عنوان «القدس تتكلم». وقد تكلمنا كثيراً نحن المعتادين على الندوات والخطابات والكلمات في حضور وزراء ونوّاب وأكاديميّين وشعراء. إلّا أنَّ منظّمي هذا النهار، هم جمعية اختارت أن تدعوَ أشخاصاً جُدداً على ساحات المؤتمرات، ومنهم طلّاب المدارس القادمون إلى «المركز الثقافي الملكي» وسط العاصمة عمّان للمرّة الأولى، حيث كانت مشاركتهم بمثابة فواصل بين كلمات المثقّفين ورجال الدين، وقد ألقوا أشعاراً من تأليفهم أو من شعراء «فطاحل».

شَدَّني اللقاء بالطالبة الأرمنية «نارود زاكريان» من المدرسة الأرثوذكسية في جبل الأشرفية وتحديداً في حَي ما زال يحمل اسم «حَي الأرمن».

وقد ألقَت قصيدة لهارون هاشم الرشيد ابن غزّة فقالت:

أجل إني من القدس

وفيها قد نما غرسي

أنا أعطيتها عمري

فداً، أسكنتها حسّي

أنا منها وأفديها

أنا بالمال والنفسِ

ولا أرضى لها ذلّا

لمحتلّ ومندسِ

صَفّق الجمهور لها طويلاً، لبلاغة اللغة وقوّة الإلقاء… ولكونها أرمنية، فقلتُ لها بعدما أخذتُ صورةً معها: هذه السنة لديكم مئوية المجازر، فقالت بصوتٍ محترق: أجل ولكنّ العالم قد تخلّى عنّا.

هذه الفتاة التي لم تبلغ الخامسة عشرة من عمرها بعد، تقول إنّ العالم قد تخلّى عن القضية الأرمنية، في حين تُحيي بلدان عدّة هذه الذكرى، وأبرزُها القدّاس الذي يقيمه البابا فرنسيس في ساحة الفاتيكان بعد أسبوعين وفي غمرة إحياء السِر الفصحي، سِرّ القيامة.

لكن، ماذا تنتظر نارود من العالم؟

إنّها تنتظر أن يعرف العالم حقيقة ما حصل، وأنّ مليوناً ونصف مليون شهيد قد قضوا في بداية القرن العشرين، لتكون واحدةً من أبشَع الأحداث الدموية في القرن الماضي.

وثانياً، تنتظر الاعتراف بما حصل، بلا خجل ووَجل، ومن دون انتقام، ولكن من مبدأ أنّ «الاعتراف بالخطأ فضيلة». الأصوات هنا وهناك. لكنّني أرى أنّ خجلَ الحكومات وخوفَ بعضها هو سيّد الموقف، لكي لا تغضبَ سفارة هذه الدولة أو تلك.

وطبعاً إلى جانب المجازر بحقّ الأرمن التي تمثّل قتلاً جماعياً «Genocide» وتطهيراً عرقياً لديانة وشعب، هناك أيضاً مجازر «سيفو» بحقّ السريان، أي السيف، ويُقدّر عدد ضحاياها بنصف مليون قضوا بذات السيف وتطبيقاً لذات الأوامر الغاشمة والظالمة والمنغلقة، التي تجد لها صورةً طبق الأصل اليوم لِمَا حصلَ في الموصل وسائر مدن وقرى سهل نينوى في العراق الشقيق.

وثالثاً، نارود الفتاة الأرمنية التي سمعَت قصصاً ومآسيَ من جدّها نَقلاً عن والده وجَدّه، تعرف بقلبِها الطاهر أن تبصرَ أبعدَ ما ترى فيه نظّاراتها الدائرية، بأنّ على العالم والأسرة الدولية أن تكون أكثرَ عدالةً وألّا تكيلَ بمكيالين وأن تعترف بحقوق الشعوب المقهورة ولا تضيّعها بحجّة إرضاء هذه الدولة أو تلك.

ورابعاً، تُدرك هذه الفتاة كما يدرك الأرمن جميعاً في كلّ أنحاء العالم، أنّ إحياء الذكرى لن يعيدَ الضحايا إلى الحياة، إلّا أنّ المعاناة التي وصفَها البابا فرنسيس في لقائه العام الفائت مع الكاثوليكس آرام الأوّل بتاريخ الهجرة والاضطهاد والاستشهاد الذي عاشَه العديد من المؤمنين وتركَ جراحاً عميقة في قلوب جميع الأرمن، يوجب «أن ننظرَ إلى هذه الجراح وكأنّها جراح في جسَد المسيح»، وأنّها تُمثّل جراح مسيحيّي الشرق، وهو المصطلح المستخدم في سينودس الكنيسة في الشرق الذي عُقِد عام 2010 في الفاتيكان، ولم تستخدم عبارة المسيحيين العرب إنّما مسيحيّي الشرق، احتراماً للتعدّدية ليس فقط الدينية أو الطائفية وإنّما الإثنية والعِرقية واللغوية.

ولعلّ المُراجِع للتاريخ المسيحي في تركيا على سبيل المثال لا الحصر، يجد أنّه عبر مئة عام (أي مِن سنة الحرب العالمية الأولى وعشية المجازر التي يُحييها العالم عام 1914، إلى العام الماضي 2014)، سنجد أنّ مسيحيّي تركيا، بحسب صحيفة «الافينيري» الايطالية، كانوا مليونين وتسعمئة وتسعمائة ألف نسمة، بينما العام الماضي، انخفضت «الحكاية» إلى مئة ألف فقط، موزّعين في كلّ أنحاء تركيا التي انطلقَت منها البشارة المسيحية إلى كلّ الأقطار، بعدما أسَّس فيها الرسل، خصوصاً القدّيس بولس، أولى الكنائس، وكتبَ لها رسائله التي تُعتبَر جزءاً من الكتاب المقدّس.

شكراً لكِ نارود، وشكراً لكلّ أترابكِ، وشكراً لقصيدتكِ عن القدس التي شهدَت مثلما شهدَت أرمينيا مجازرَ وويلات، لكنّها مصَمّمة على البقاء مدينة لا تسمّى أيّ مدينة أخرى باسمِها: أي مدينة السلام.

وكم يحزّ بالنفس أنّكِ تشعرين بأنّ العالم قد نسيَكم، لكنّك تؤمنين بأنّ خلفَ الأحداث ووراءَ المئويات ووراء طبَقات الجليد، هناك ربٌّ واحد خلقَ الكون بسبعة أيام، وهو يقول لك اليوم، ما قاله لأشعيا النبي قبل ثلاثة آلاف سنة:

«هل تنسى الأمّ رضيعَها، فلا ترحَم ابنَ بطنِها؟ حتى هؤلاء ينسَين، وأنا لا أنساك».

ويبقى الختام لكلمة للبابا فرنسيس الذي قال في حزيران الماضي: «تشَكّل جراح الأرمن مصدراً لرجاء لا يُهدَم وللثقة برحمة الآب».