إنه الانتظار.
«حزب الله» معتصم بالصمت. لا يقول شيئاً، الرد لن يكون بالكلمات. هذه المرة ليست كسابقاتها. هل يكون الرد «معركة» ام هو «حرب»؟ التصويب من لبنان أم من الجولان؟ الأمرة لمن، للحزب وحده، أم للمثلث الإيراني ـ السوري والمقاومة؟ خريطة النار من يرسم تخومها، وما المسموح والممنوع؟ أي ثمن ومن يتحمله؟ واسئلة أخرى كثيرة.
إنه الانتظار.
إسرائيل تفصح عن توجسها. تقول وتستعد للأسوأ. تهدِّد وقد تفعل. نيرانها، إذا اندلعت، قد تعيد لبنان إلى العصر الحجري، قد تطيح رؤوس النظام السوري وما تبقى له من أرض، وقد لا تجرؤ على ذلك كله: «حزب الله» قد يعيد الكثير من «إسرائيل» إلى العصر الحجري. صواريخه التي بالآلاف، ستهطل على الحيوي من «إسرائيل». ستعيش جحيماً، وليس في العالم من يهرول لإطفاء الحرائق.
إنه الانتظار.
لبنان، كعادته في السياسة، يخرج من الانتظار إلى ساحة اللهو السياسي والعبث المصيري، ثنائية دم الجيش ودم المقاومة، لم توحد بعد ما بين القوى السياسية. المتابع لسلوكها يدرك أنها لا تعترف أن لبنان في حرب، وأن الشهداء، شهداء الجيش والمقاومة، سقطوا في حرب، تشنها منظمات التكفير والإرهاب. بعض لبنان يعيد تلاوة الماضي، يتصيد الخطايا ليصم بها المقاومة، ليحملها أثمان الماضي وأثقال الحاضر وتوجسات المستقبل.
إنه الانتظار.
وفي هذه الأثناء تنصرف «داعش» إلى خسارة القليل جداً في العراق، وفق ما قاله وزير الخارجية الأميركي جون كيري، إلى التعويض عن ذلك، بتوسيع انتشارها على حساب «النصرة» في القلمون على حدود لبنان، وإلى احتلال مواقع قريبة من دمشق وهلم جراً. هزيمة «داعش» ليست منظورة. التحالف الدولي مقصر. الجيش العراقي، بحاجة إلى بناء وتسليح ومدد سني، إلى جانب الاحتشاد الشيعي، وهذا ليس في المتناول ولا في المنظور. الجيش السوري في كر وفر، والدماء لا ثمن لها. يراق بلا حساب للآلام. والناس يهيمون بين خيام اللجوء والذل وطرق أبواب النجاة، غرقا في مقبرة المتوسط. انه انتظار اللا حل. ما يعني أن اعمار الحرب هذه ليست بالسنوات بل بالعقود.
ومع ذلك، يخترع اللبنانيون ما يناسبهم لتحميل المقاومة فيه، أسباب تدحرج النار إلى ربوعه. هكذا، ومن دون رغبة في تصديق ان لبنان، من زمان، هو في عين العاصفة. ربما حدث ذلك منذ ولادته.
بانتظار الطلقة التي ستحدد مسار الحرب القاتمة والحروب المقبلة، لا بد من تصويب النظرة إلى الأسباب التي حدت بالمقاومة الإسلامية إلى التدخل في الحرب السورية تحديداً، بعيداً عن الأحكام القيمية والمبدئية، وبعيداً جداً، عن نصوص الدستور وبيانات الوزارات وإعلان بعبدا. فالوقائع أصدق انباء من المواثيق والنصوص، ثم ان للدماء سطوة الحضور، أكثر من حبر الكلام.
لم تكن المنطقة العربية على ما يرام، إلا نادراً. وما كان لبنان نائيا أو جزيرة بعيدة، فلقد أصيب بتداعيات الخلافات والصراعات العربية العربية، ونال قسطه المأساوي من نتائج الخسائر التي مني بها العرب في حروبهم التي خاضوها ضد إسرائيل، بدءاً من العام 1948، حتى احتلال جزء من لبنان وما بعد ذلك.
هذا معروف. حروب لبنان في 15 عاما، كانت في أساسها، انشطار لبنان حول السلاح الفلسطيني والمخيمات، كما هو منقسم اليوم حول سلاح المقاومة.
حديثا، كانت المنقطة العربية محكومة بنزاع بين تيارين أو بين محورين، «محور المقاومة والممانعة» و «محور المسالمة والمفاوضة». وحصة لبنان كانت في انقسامه العمودي بين هذين المحورين. ولقد خاض فريق لبناني معركة نزع سلاح المقاومة بعد التحرير مباشرة، لأن وظيفة البندقية قد انتفت، والمطلوب ايكال أمر السلم والحرب إلى «الدولة». وخاضت إسرائيل حرب تموز، برعاية «محور المسالمة» ورغبات أطراف لبنانية، بأن تنتهي حرب تموز، بإنهاء دور السلاح، وانتظام «حزب الله» كطائفة سياسية لها حصة فضلى في نظام المحاصصة.
المقاومة في لبنان، لم تكن وحيدة، فلها ظهير سوري، مهما قلنا في نظامه وطبيعته واستبداده، دافع عنها ودعمها وحماها وفتح لها مخازنه وأمن طرق الاتصال اللوجستية. ولها معين لا ينضب من إيران التي لها مع فلسطين تاريخ موثق بعلاقة لم تزحزح أبداً ولم تتذبذب. هذا المثلث، إلى جانب «حماس» و «الجهاد الإسلامي» في فلسطين، كان قائما قبل اندلاع «الربيع العربي»، الذي تحول إلى خريف إسلامي، ثم إلى جحيم تكفيري، ولهذا، لم يكن ممكنا تصوَّر أن يقف «حزب الله» متفرجاً في الحروب التي اندلعت في المنطقة، والتي زجت فيها دول المسالمة، من السعودية إلى قطر ودول الخليج، بكل ذخيرتها المالية والنفطية والمذهبية والأمنية والعسكرية، لأن خسارة دمشق، ضربة قاصمة لظهر المقاومة في لبنان وقطعا لذراع إيرانية وتنفيذا لرغبات وارادات دولية وعربية، في محاصرة إيران واسقاطها، خصوصاً أن «عرب المسالمة»، طلقوا العداء الشفهي لإسرائيل، وتبنوا العداء العملي لإيران، حتى باتت «الشيطان الشيعي» الواجب هزيمته.
نحن في لبنان: الجماعات أقوى من الدولة، الطوائف والمذاهب أقوى من الدستور والقوانين. نحن في لبنان، حيث شعبه يفيض عن حدوده، وهوياته الطائفية تمنحه «فيزا» دخول إلى حيث هواه الديني، وتفتح الأبواب ليكون لبنان ساحة للآخرين. هذه المرة، لم يعد لبنان مع «حزب الله» ساحة، بل صار لاعباً إقليمياً، يحسب له ألف حساب عسكرياً وسياسياً.
لم يكن ممكناً تصوَّر بقاء «حزب الله» محايداً في هذه الحرب. من يظن أو يرغب في ذلك فهو مشتبه ومتغاض عن تجارب لبنان والمنطقة. تماما كمن كان يظن أن «حزب الله» لن يستعمل سلاحه في الداخل، حتى أقدمت الحكومة على اتخاذ قرارات وزارية تمس سلاح المقاومة. المس بالسلاح يستدعي السلاح إلى الشارع. والمس بالمقاومة ميدانياً وتحالفياً، يستدعي حمل السلاح دفاعاً عن الوجود والقضية.
بانتظار اللحظة التي يرد فيها «حزب الله» على العدو الإسرائيلي، أمام العقلاء من اللبنانيين أن يؤكدوا، ان لبنان في حرب حقيقية وأن الدم الذي يسقط في المواجهات، يوجه نداء إلى المعنيين: لن نكسب هذه الحرب إلا بجيش قوي يتلقى السلاح ممن يهبه ومن يتبرع به من دون الأخذ إلا باعتبار واحد، هو تقوية الجيش لحاجته إليه في المعارك، ولن نكسب الحرب إلا بمعادلة جيش وشعب ومقاومة. المقاومة جاهزة، أما الشعب فيحتاج إلى امرة وطنية وثقافة جامعة، ليساهم في إنقاذ لبنان من الوحش التكفيري.
ليس أمام لبنان إلا هذا الخيار، وإلا، «لات ساعة مندم».