IMLebanon

في انتظار حل «عقدة» الأسد وبدء «ورشة» الإعمار

محمد برهومة

يدلّ الحراك الإقليمي والدولي حول سورية في الأشهر الأخيرة على توجه واستعداد الأطراف المنخرطة في هذا الحراك نحو القبول بمقاربات سياسية طرأ عليها تطور نوعي، يعكس، في الواقع، الاختلاف والتغير الذي أصاب البيئة الجيو ـ سياسية في الإقليم، خصوصاً بعد المعطى الاستراتيجي المهم المتمثل في تسوية الملف النووي الإيراني. طهران، مهما كابرت، لن تستفيد اقتصادياً من تسوية ملفها النووي ببقاء الصراع محتدماً في سورية واليمن والعراق. كانت إدارة أوباما تخشى قبل هذه التسوية من أي مقاربات سياسية في الإقليم وملفاته المتشابكة قد تفسد تلك التسوية أو تؤثر فيها سلباً. اليوم تكاد واشنطن تتحرر نسبياً من هذه العقدة، من دون أن يعني ذلك أنّ ثمة مواقف انقلابية أو دراماتيكية، بخاصة في الملف السوري.

يساعد واشنطن على الظهور بهذه الصــــورة أنّ روسيا وإيران أصبحتا اليوم، أكثر قناعة، بأنه من الصعب الإبقاء علــــى الدرجــة نفسها من الدعم اللامحدود للنظــــام السوري، فالتغيرات على الأرض، وفـــــي المزاج الإقليمي والدولــــي، والاستنزاف المالي دفعهما لأنْ يكون الهدف اليوم التمـــسك بالرئيس بشار الأسد، والرياض وأنقرة والدوحة، لديهم اليوم المزيد مــن المسوغات والأسباب للتحدي وعـــدم التراجـــع عن دعم المعارضة السورية والسعي لإسقاط الأسد. وحتى بعد زيارة عادل الجبير لموسكو، ومن قبلها لقاء المسؤولين السعوديين بعلي مملوك في جــدة، قيل إنه رسالة موجهة الى موسكو عن أنّ المرونة والبراغماتية متوافرتان لدى السعودية، فإن الرياض مصرّة على عدم التـــنازل عن مسألة «لا مكان للأســـد في مستقـــبل سورية وأنه جزء مـــن المشكلة وليس الحل». الرياض ماضية بالتفاهم مع أنقرة والدوحة في استكمال التغييـــر في سورية، والجديد اليوم، الذي تتقارب فيه الرياض مع موسكو، هو الاعتـــراف بأهمية المحافظة على مؤسسات الدولة السورية بما فيها الجيش، إلى جانب الاعتراف بأولوية محاربة «داعش»، وهما أولويتان تقربان أيضاً بين موسكو وواشنطـن، وقد تؤسسان لتسويات جزئية وهدنة إنسانية هنا وهناك، وما حدث في الزبداني مثال قد يتكرر مع بعض التعديل.

قبل شهور كانت توصف العلاقات السعودية ـ الروسية (ومنذ أحداث «الربيع العربي») بالجمود والفتور. هذا الوصف لم يعد صالحاً اليوم، وكلا الطرفين لا يريدانه. هذا انزياح مهم، تكشف عنه أهمية المقارنة بين ردّ الأمير الراحل سعود الفيصل على المبادرة الروسية في القمة العربية الأخيرة في القاهرة، وتمني الجبير لدى لقائه الأخير بلافروف أن تحدث موسكو مزيداً من التحول في مواقفها من الأسد، ورغبة موسكو، في المقابل، في أن تغيّر الرياض موقفها من موضوع بقاء الأسد، وتسعى الى أنْ يكون هناك حوار بينه وبين المعارضة يفضي إلى مرحلة انتقالية قد تصل إلى خمس سنوات كما يريد الكرملين. السعودية وروسيا تتفقان على مرجعية «جنيف 1» وتختلفان حول بقاء الأسد ضمن النظام الانتقالي المقبل، وحتى الأطراف الأوروبية والأميركية ـ التي تؤيد الفترة الانتقالية ولا تصرّ على إبعاد الأسد ـ تختلف مع موسكو على المدة ولا تريدها أن تطول لخمس سنوات. الدخول في التفاصيل يعني الرغبة في التسويات والحلول والتهدئة، والسؤال عما إذا كانت جزئية أم شاملة. العقدة في بقاء الأسد، لكنّ ذلك لن يمنع من احتمال قيام خطوات تهدئة وهدنة وتسويات جزئية هنا وهناك، وسيصيب البعض التناقض والارتباك حين يرون هذه التهدئة الجزئية تتزامن مع تصعيد في الميدان، لأن جميع الأطراف تعي أن التسوية الشاملة مربوطة بمصير الأسد، وأن اي حراك ديبلوماسي سيبقى قاصراً ما دام يتجنب هذه المسألة ويؤجلها.

الحراك الإقليمي والدولي حول سورية يهدف أيضاً إلى تقوية المعارضة الوطنية المعتدلة، وهي ما زالت ضعيفة. غالبية الأطراف، وليس جميعها، لا تريد أن يخلف الأسدَ «داعش» و «النصرة» و «أحرار الشام»؛ حتى لو استمر الصراع لفترة أطول، على رغم إشكالية أن إطالة الصراع هي في الواقع تغذية لكل نزعات التطرف والعنف والفوضى. لذلك ينبغي التفكير بآليات أكثر ذكاء ونجاعة لحل هذا التناقض. الإقدام على هذا التفكير يعني توجهاً نحو التسوية الشاملة والحلول التوافقية، والتحدي الأكبر الذي يواجه جميع الأطراف هو: كيف تكون السنوات العشر المقبلة في المنطقة «ورشة» لإعادة إعمار البلدان التي دمرتها الصراعات بدلاً من أن تكون هذه السنوات العشر امتداداً للحروب الأهلية والفوضى والضياع الشامل؟