العسكر إذا حكم وأردوغان إذا استحكم
ـ ١ ـ
لم يحصل سائق الشاحنة على حقه من الاهتمام بحفلة الموت في «نيس…»…الأضواء سرقها نجم كل المواسم «الإسلامي» منذ أن صعدت معه «بارانويا» السلطان إلى القصر الجمهوري.
بدا اردوغان قبل دخوله المنحنى الدرامي ليلة الجمعة الغامضة، قريبا من «بطل مهزوم» يسير الى إعادة تحالفاته وترتيب أوراقه، متخليا عن حلم الإمبريالية المحلية/السلطنة الجمهورية/العثمانية الجديدة /الخلافة الديمقراطية الحديثة.
هو ابن التناقضات. مهووس السلطة. مجنون الحكم. اللاعب المحترف بالديموقراطية لتصبح طريقه الى سلطوية ومنها الى ديكتاتورية متعددة الاقنعة.
المسافة بين السلطان الجمهوري وسائق الشاحنة ليست بعيدة، فالحلم واحد هو «السلطة» في مواجهة «العجز» او «الشعور بخذلان التاريخ» وضياع «الأبهة المجيدة».
اردوغان لم يمسك بعجلة قيادة الشاحنة، ولا انتقم من «تململ هويته» بدهس المحتفلين وتفجير ذاته، لكنه في سبيل اكتمال البارانويا يفجر نفسه في «دولة» بكاملها، بعد ان اعتبرها غنيمته في «حرب سلطوية» متوحشة مع العسكر.
قبل انقلاب العسكر المغامرين بقليل، حاول اردوغان العودة الى مكان ودور سابقين على تصاعد أحلامه الامبراطورية، وفي الانقلاب حاول العسكر العودة الى مربع النفوذ الذي ضاع منهم منذ 2003.
كلاهما، اردوغان والعسكر، لم يصل الى «المكان القديم» برغم أنهما معا في شراكة كاملة لتدمير اللحظة الراهنة، وتفجير تناقضاتها، فالديموقراطية التركية لم يبق منها غير موقف الأحزاب السياسية (من اليسار الى الأقليات مرورا باليمين القومي ضد الانقلاب..) والدولة فقدت صورتها الرمزية حين «التهمت» وحشية الميليشيا بقايا وحشية العسكر.
ـ 2 ـ
لا الشعب شعب، ولا العسكر عسكر.
هذا ما أضافه انقلاب الساعات الثماني في تركيا. كل التوصيفات بما فيها الديموقراطية، وصلت الى حافتها الحادة.
المنتصر يدمره انتصاره. هذا أيضا درس من دروس الانقلاب الغامض، الذي تصدق عليه كل التحليلات معا، أو تنطبق عليه كل المؤامرات معا، فكل فكرة تحمل نقيضها. ومخزون العنف يحفر مسارات لا يمكن توقع لحظة انفجارها.
هل وصف «الشعب» الذي تستمد منه الدول الديموقراطية شرعيتها، يصلح لمن انتصر بهم اردوغان على الانقلابيين؟.
الديموقراطية ولدت وبقيت غريبة في تركيا، بسبب ولادتها في كنف «السلطوية» وهو ما خلق بيئات ينمو فيها «الكيان الموازي» (شبكة فتح الله غولين حليف اردوغان الإسلامي القديم) و «الدولة العميقة» (شبكات الأجهزة التي حكمت تركيا منذ اتاتورك وحتى اربكان).
كما أن الشعب، وكما ظهر في «الانقلاب» كان مجرد «قناع جنائزي» لميليشيا اردوغان، وكذلك حال «حشود» الدولة العميقة، وجماهير «الكيان الموازي».
كما أن «مؤسسة السلاح» لم يعد لها قوة الحسم القديمة، بعد استبدالها بقوة الشرطة، والميليشيا الشعبية المساعدة.
أين الديموقراطية هنا؟ أين الدولة؟ أين الشعب؟
كل هذه التعريفات التي عاشت تاريخا ملتبسا، تسقط الآن في لحظة التغيير التي اكتشفنا فيها أننا نعيش عصرا بائدا.
ـ 3 ـ
..اردوغان شجاع لأنه مهووس.
وشجاعته في حشر «تصوراته عن العالم» داخل هذه التركيبة المعقدة التي تراكمت على سطح «الدولة الحديثة» في تركيا.
بالضبط مثل قاتل «نيس» الذي عاش حياة لاهية في فرنسا، من دون أن يبني تصورات تتوازن مع تلك التي بنتها خطابات «الصحوة الإسلامية» التي تغادر العالم وهي تقيم فيه وتجاهد من أجل تغييره بالدم.
اردوغان الحالم باعتراف أوروبا بأوروبيته، هو نفسه الذي تقوده ساقه الأخرى الى بناء «سلطنته /خلافته» الاسلامية /العثمانية، والفارق بينه وبين سائق الشاحنة أن لدى اردوغان خطابات تطبخ له تلك التركيبات المدهشة «الديموقراطية الإسلامية» أو «الإسلامي المعتدل» أو…. الى آخر اختراعات روج لها الغرب نفسه لنماذج يمكن التعامل معها في ذلك الشرق الذي يصرون على أنه ما زال شرقا ليبقى الغرب غربا.
هي لحظة فارقة فعلا.