بالرغم من إيحاءات التفاؤل المتعلقة بقانون الإنتخابات قيد الإعداد والتي زادت أحجامها الإيحائية في الفترة الأخيرة إلاّ أن التدقيق في بواطن الأمور، وفي المواقف المعلنة، الصريح منها والملتبس، ينقل الكثيرين إلى وضعية شك معززة بوقائع ومواقف سلبية محددة يطلقها كثير من المسؤولين، وهي في ظاهرها وباطنها ومضامينها متعددة الأوجه والتفاسير والغايات، لا توحي بالإطمئنان إلى نوعية ومصير المسيرة الإيجابية التي انطلقت مع العهد الجديد والآفاق التوافقية التي رافقت نشأته ولواحقها من خطاب القسم والمواقف والتصريحات الرئاسية. ولئن كان الكثيرون يتوقعون أن تسير الأيام التي تمر إلى تخفيف حجم المطالب والمطالب المضادة بما يؤدي إلى حلولٍ وسط توقعها هؤلاء وتوقعوا معها مدخلا للحكم الجديد إلى مراحل العطاء العملي والنتاج السياسي والإجتماعي الإيجابي، خاصة وأننا محشورون في هذه المرحلة الحرجة والمعقدة سواء على مستوى الإضطرابات الدامية والخطيرة التي تسود أنحاء منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، أم على مستوى المستجدات الدولية وفي طليعتها تبوّؤ الرئيس الأميركي الجديد لموقع المسؤولية في بلاده، حيث باتت مسيرة الولايات المتحدة مرتبطة بسلسلة من التوجهات الإنقلابية المستجدة التي أمسكت بخطوط ذات أثر وفعاليّة في توجيه مسيرة الأحداث على مستوى العالم كله، ومثل هذا الإمساك يتوجه بأنظار أميركية تركّز في هذه الايام الحالكة على أوضاع لبنان، وتهدد بوقف الدعم الأميركي للجيش اللبناني، وعلى توجيه الأنظار الحادة على امتدادات الوضع الإيراني لدينا، في وقت نتلقى فيه اتهامات تضع لبنان ولو في بعض زواياه، في خانة الإرهاب، معززا بجهود إسرائيلية تواجهنا بشتى أنواع التحريض والتآمر. وكذلك الأمر، تشتد التحركات الداخلية في أكثر من اتجاه متناقض ومتناهض، سواء على مستوى استفحال التوجهات الطائفية والمذهبية أم على مستوى إبراز بعض الأحزاب والتجمعات لمطالبها المكبوتة التي كنا نظن أنها قد طويت إلى حد بعيد، إلاّ أنها عادت إلى الحياة ونهضت إلى الساحة، تجمعات تصبغ نفسها بألوان بعيدة عن صفات الحسّ الوطني الصافي والمتجه نحو دولة تنفي عن نفسها صفة التكوّن من شعوب متعددة، وطوائف يزداد عددها وتتكشف مطالبها إلى حدود باتت أقلياتها الصغرى تطالب بأن تحظى بحصتها من قرص الجبنة الذي بات مرشحا للأكل والإلتهام بجشع واستفراس، وحتى لبات بعض القادة المسيحيين يطالبون في حال استمرار الفشل في إيجاد الحلول النيابية، إلى عقد عاميّة مسيحية شاملة بدلا من المطالبة بمؤتمر وطني شامل، وحتى لبات رئيس التيار الوطني الحر يهدد بالعودة إلى مشروع القانون الأورثوذكسي في حال فشل التوافق على قانون جديد للإنتخابات، إضافة إلى أن بعض الزعماء السياسيين المنتمين عموما إلى جميع الطوائف والمذاهب والتقوقعات، استنهضوا الحس الطائفي والمذهبي، وباتوا ينامون على مشروع، ويستفيقون على مشروع آخر أكثر تقوقعا وانكماشا وتوجها طائفيا ومذهبيا، واذا بالمحرّك الأساسي لهم جميعا في كل غفوة وصحوة، المصلحة الإنتخابية الصرفة لقادتهم وزعمائهم، والتطلع إلى احتساب النتائح الإنتخابية المتوقعة من قبلهم فلا يوافقون إلاّ على ما اتفق مع توجهاتهم وأرقامهم المتوقعة وربحهم الانتخابي الصافي، الأمر الذي يلغي كل إمكانيات التوصل إلى صيغة توافقية على مشروع وطني موحد.
ويصادف الغوص العميق في البحث الصعب عن قانون انتخابات عصري ومتطور، تلازم مع بحث آخر لا يقل عن المشروع الإنتخابي، صعوبة وتعقيدا، ألا وهو المتعلق بالعودة إلى إقرار موازنة سنوية تحدد وتنظم شؤون المال العام وشجونه بعد أن طفح الكيل من عشوائية التعامل السليم والتصرف الدقيق والعملي في كل ما تعلق بشأن المال العام، ومن الغريب العجيب كيف انكفأ بعض الوزراء في جلسة يوم الإثنين المنصرم عن الحضور بما يشبه المقاطعة – الموقف، وبما يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن مجال التحاسب السياسي قد ابتدع ساحة جديدة للمناكفات تمثلت في مجلس الوزراء تحت رايات العهد الجديد. مما دفع بالرئيس الحريري إلى رفع هذه الجلسة بافتعالاتها ومؤشراتها، وبصرف النظر عن التفاصيل التقنية المتداولة بصدد الموازنة، فإن الإستغراب الشديد، يطاول أبناء هذا الشعب الذي يكاد أن يفقد طبقته المتوسطة التي كانت تحيا من دخلها وانتاجها بعضا من حياة كريمة تجنبها الحاجة والعوز، فاذا بالموضوع المطروح للبحث ينحصر في الكيفية التي تزاد فيها الضرائب ووسائل الجباية والتحايل على الناس في المداخيل المقترحة وكأنها أفضل الفضائل وأصح السبل، ويضيع المواطن كل يوم ألف مرة وسط دهاليز الهدر والفساد والسرقة العامة والنهب الشامل، فإذا بالدكتور جعجع، يشير إلى الكهرباء المسروقة علنا وجهارا، خاصة وأن أرقام عجزها باتت تناهز الملياري دولار، ونتوقف عند سرقات موصوفة ومكشوفة تحصل في كل مكان، بات تعدادها وتحديد أماكنها من قبيل التكرار، وتضيع الوقت وتطيير العقل وبات الناهبون قلّة سياسية وزعماتية وميلشياوية، وسط شعب كامل أصبح كدّه اليومي لا يؤمّن له ما يسدّ الرمق ويخفف من وطء الحاجة، وآلام البحث وذلّ السؤال.
ما زلنا حتى الآن شعبا يعالج شؤونه وشجونه على النحو الذي يعالج فيه نفاياته، وما زال إفراز الساسة والمتزعمين والقادة المتخصصين في نهب الثروات الوطنية والشعبية بصور مبتكرة ومبتدعة مستمرا ومستفحلا وطامحا إلى مزيد، وما زال التوجه إلى إيجاد الحلول عن طريق فرض المزيد من الضرائب هو التوجه الأساسي لدى معظم أهل الحل والربط الذين ما زالوا مرتاحين تماما إلى حالات الفساد والهدر التي تسود البلاد وتتحكم بالعباد.
وما زال البعض مستمرا في تفاؤله! دلّونا يا أهل الخير على كيفية الوصول إلى هذا التفاؤل، والثبات في مواقعه.