بعد الأزمة الاقتصادية وتعثّر مؤسسات الرعاية والتأهيل، تعود إلى الواجهة مسألة دمج الأشخاص المعوقين، وتحويل هذه المؤسسات تدريجياً من مراكز استضافة لسنوات طويلة إلى مراكز تمكين تدعم استقلالية الشخص المعوق وتساعده على الاندماج في المدرسة والمجتمع خلال فترة قصيرة، خصوصاً أنّ مؤسسات الرعاية تقضم الجزء الأكبر (70%) من ميزانية الدولة المرصودة لمجال الإعاقة، تُنفَق غالبيته على تكاليف المنامة وتأمين الطعام، رغم أن الأشخاص المعوقين في المؤسسات لا يشكّلون سوى 7% من مجمل عددهم الإجمالي، «فمن بين حوالي 122 ألفاً يحملون بطاقة إعاقة، هناك نحو 8500 داخل المؤسسات، فيما القسم الأكبر منهم خارجها يحصلون على 30% فقط من المخصّصات»، كما يوضح الناشط في مجال الإعاقة إبراهيم عبدالله.عام 2019، أطلقت وزارة التربية استراتيجية الدمج في المدارس الرسمية ليصل عدد المدارس الدامجة اليوم إلى نحو 130 خاصة ورسمية، من دون أن تبدو واضحة معايير الدمج المعتمدة، وإلى أيّ مدى تُعدّ هذه المدارس دامجة فعلاً. كذلك جرت مبادرات للدمج، من بينها ما قام به «الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً» قبل عام 2005 من دمج سبعة أشخاص معوقين في مدرسة في عرسال (قضاء بعلبك) بعد تجهيزها لوجستياً ووضع خطط وبرامج تربوية وتأهيلية من قبل فريق عمل متخصص. وقد «نجحت التجربة بشكل كبير وسعينا لتعميمها من خلال وضع استراتيجية وطنية للدمج في إطار زمني محدد، لكن هذا يحتاج إلى قرار سياسي، وغالباً ما يصطدم بردّ المسؤولين ذاته: مش وقتها»، كما تنقل رئيسة الاتحاد سيلفانا اللقيس، مشيرة إلى أنه بعد الانهيار الاقتصادي تحوّلت الحجة إلى «عدم توفر المال لتنفيذ مشاريع الدمج».
رغم آثار الأزمة الاقتصادية، تشدد نائبة رئيس المجلس الوطني للخدمة الاجتماعية (التابع لدار الأيتام الإسلامية) سلوى الزعتري على أنّ «الحل لا يكون بإقفال المؤسسات بل بدعمها»، مشيرة إلى «فشل سياسة الدمج في أغلب الأحيان، ما يفسّر عودة الأشخاص المعوقين من المدارس الدامجة التي هيّأتها وزارة التربية إلينا بعد أسابيع من تسجيلهم». وتعزو ذلك إلى «عدم إمكان تطبيق سياسة الدمج على كل أنواع الإعاقات باختلاف درجاتها، خصوصاً الإعاقات المتوسطة والمتقدّمة والإعاقات الذهنية»، وكذلك إلى «اصطدامها بثقافة مجتمعية لا تتقبل الاختلاف»، مشكّكة في جهوزية المجتمع اللبناني ومؤسساته لتطبيق الدمج، لافتة إلى «شكاوى أولياء أمور في المدارس الدامجة من وجود معوقين معهم».
أما الأهالي، فيفضّلون المؤسسة الرعائية على فكرة الدمج نظراً «إلى جاذبية المؤسسات وما تشمله من مروحة واسعة من الخدمات، توفّر عليهم التكاليف، خصوصاً في النقل والعلاج»، بحسب اللقيس. وتقول بتول سلامي، وهي والدة الطفلة في الثامنة من عمرها، إنه «لا خيار أمام ابنتي غير المؤسسة، وإلا تبقى في المنزل، إذ لا يمكنها أن تلتحق بواحدة من مدارس النظام العام لأنها لا تسمع ولا تتكلم ولا يمكنها أن تمشي وحدها، إضافة إلى أن لديها إعاقة ذهنية». أما خلدة يوسف (25 عاماً) ذات الإعاقة الحركية فتؤكد أنه «ليس هناك من يحب أن يفترق عن عائلته لكنني أُجبرت على البقاء في القسم الداخلي في مجمع «إنماء القدرات الإنسانية» في عرمون لعدم توفر مدرسة تقدّم خدمات التأهيل في قريتي قب الياس (البقاع)». تشعر خلدة «بالامتنان للمؤسسة التي صنعتني، ووفّرت لي التعليم الأساسي والرعاية والدعم النفسي خلال فترة التعليم المهني، واليوم سلّمتني وظيفة مسؤولة برنامج الدمج الخارجي، حيث أساعد الأشخاص المعوقين على التسجيل الجامعي وتأمين الكتب وغيرها من الخدمات خارج المؤسسة».
يبدو تفضيل المؤسسة على الدمج منطقياً جداً وسط التحديات اللوجستية وعدم توفر البيئة المناسبة للدمج هندسياً وغياب الأجهزة والأدوات، والصورة النمطية للشخص المعوق، وغياب التوعية على تقبّل الآخر. لذلك، رغم «معاناة العزل» داخل المؤسسات التي ينقلها عدد من الأشخاص ذوي الإعاقة، ولا سيما الانسلاخ عن الأهل والأصحاب، فإنهم يؤكدون أنه لو عاد بهم الزمن إلى الوراء لاختاروا المؤسسة، ليس رغبة بها، بل لأنهم لا يملكون ترف الاختيار، وفي أماكن عدة استفادوا منها. فعندما رفضت المدرسة المجاورة لمنزلها استقبالها، كانت مؤسسة الرعاية في عاليه الخيار الوحيد أمام والدة سيلفانا اللقيس، ولم تتردد في تسجيلها في القسم الداخلي لأن العائلة تقطن في جبيل. اليوم، «عرفتُ كم كان خياراً مؤذياً يشبه عقوبة السجن، ومدمّراً للحياة ويدفع نحو التنشئة على مبدأ التمييز، وهو ما لا نريد أن نورثه للأجيال القادمة»، كما تقول اللقيس، مشكّكة في الدور التعليمي الفعلي الذي تلعبه بعض المؤسسات «لكثرة الخرّيجين الذين يأتون لزيارة الاتحاد ولم يتعلموا في المؤسسة أكثر من الكتابة». وتشير في هذا الإطار إلى ما أظهرته دراسة أجرتها مع الخبير في مجال التنمية والإعاقة إدوارد توماس عام 2003 على عينة من 200 شخص من ذوي الإعاقات المختلفة وبيّنت أن أكثر من نصف المبحوثين غير حاصلين على عمل أو تعليم، وجزء مهم منهم لا يعرف الكتابة ولا القراءة.
تقضم مؤسسات الرعاية 70% من ميزانية الدولة المرصودة لمجال الإعاقة رغم أنها لا تؤوي أكثر من 7% فقط من الأشخاص المعوقين
من جهتهم، لا ينفي أنصار اللامؤسساتية في مجال الإعاقة أنّ «الطريق طويل وغير معبّد أمام تحقيق الدمج الكلي، ولا شك أنه لن يحصل بين ليلة وضحاها، وقد يتطلب 7 إلى 10 سنوات أو أكثر. ويستدعي ورشة تكييف المناهج وطرق التعليم وتجهيز المدارس وتدريب الفرق المختصة، وتضافر الجهود لتأمين الحق في الصحة والعمل والنقل والوصول إلى المعلومات، وغيرها؛ على أن ترافق هذه الإجراءات «نفضة تشريعية» وحملة إعلامية وتربوية للتوعية بضرورة احترام الاختلاف. لكنهم يؤمنون «قياساً بالتجارب العالمية بنجاح الدمج، باختلاف أنواع الإعاقة ودرجتها، وفي أعمار مبكرة»، كما تقول اللقيس.
من التجارب الناجحة عدم حاجة لين السيد (29 عاماً)، مثلاً، رغم أن لديها إعاقة حركية، إلى مؤسسة رعائية في أي مرحلة من مراحل حياتها حتى حازت على إجازة في علم النفس العيادي وماجستير في علوم الإعلام والتواصل، وتبوّأت منصباً في منظمة غير حكومية. كان التحدي الأكبر بالنسبة إليها «التنمر الذي دفعني لأن أتوسل إلى عائلتي في سن العاشرة لنقلي إلى مؤسسة للأشخاص المعوقين حيث يكون كلّ من هناك يشبهني». ويرتبط نجاح الدمج هنا بأحد جوانبه بالقدرة المادية للعائلة التي سمحت بتسجيل لين في مدرسة وجامعة خاصة جاهزة هندسياً لاستقبالها، وتوصيلها إلى باب المدرسة، وحصولها على جلسات علاج ودعم نفسي.
وأخيراً، سواء أكانت مؤسسات الرعاية نعمة أم نقمة بالنسبة إلى الأشخاص المعوقين، فهم محشورون بين فكَّي كماشة: إما البقاء في المنزل أو دخول المؤسسة، ولا يعرفون إن كانوا، بعد التحول نحو اللامؤسساتية، إن حصل، «سيظفرون» فعلاً بالحرية والاستقلالية والمساواة والكرامة الإنسانية والحقوق المنتهكة.