يومياً، يتكرر عصراً المشهد نفسه في شارع الزغبي في بلدة الزلقا: يخرجن الواحدة تلو الأخرى من منازلهن في اتجاه النادي. نساء خمسينيات وستينيات، معظمهن ربات بيوت، يستبدلن بثياب المنزل «تايورات»، ويرتبن شعورهن، ويحملن ركاوي القهوة إلى النادي.
بعد ساعة أو ساعتين، سيمرّ رجلان يحمل أحدهما عوداً والآخر ناياً. تسألهما إلى أين؟ فيجيبان إلى النادي طبعاً. وسرعان ما تضاء أضواء النادي ويخرج الشباب والشابات إلى الشرفات لإكمال نقاشهم، فيما يمتلئ الصالون بنساء ورجال وأطفال يتابعون أحد البرامج ويلهون بالورق والشطرنج وعزف الموسيقى. كتب فوق باب النادي «بيت الشعب». سيستغرقك وقت طويل حتى تفهم أن هذا «النادي» ليس إلا مركزاً لحزب الطاشناق.
الجيران يقارنون بحسرة بين بيوت ومراكز أحزابهم وبيت الطاشناق. لكن عملياً لا مجال للمقارنة، فالفرق شاسع بين مراكز لا يقصدها غير المبالغين في انتسابهم الحزبي لعقد اجتماعات جدّية مملة، والمركز الطاشناقي الأشبه بحديقة عامة يدخلها كل من يشاء لتمضية الوقت، فيما يعقد المحازبون اجتماعاتهم الدورية في غرفة جانبية.
ويمكن بسهولة إعادة رسم مشهد الأرمن الأوائل يحجّون من منازلهم الصغيرة المشتتة في الكمبات الأولى إلى مركز
الحزب لتبادل الأخبار ومقابلة جمعيات الإغاثة والاستمتاع قليلاً بالموسيقى أو بعض الرياضات الصغيرة. ومع تحسن الأوضاع، حافظ هؤلاء على حديقتهم العامة يستنسخونها في كل حيٍّ يصلونه، سواء في تمددهم المتنيّ والبيروتي أو في الولايات المتحدة واليونان وغيرهما من دول الانتشار الأرمني، ليتجاوز عدد النوادي في لبنان الخمسين. خمسون مركزاً حزبياً بعضها نوادٍ رياضية، والبعض الآخر ثقافي أو اجتماعي، وجميعها مزودة بكافيتريات وتجهيزات صوتية والعدة اللازمة لترتيب عشاء كبير أو تنظيم خطوبة أو احتفال صغير بعيد ميلاد أو غيره. ففهم الطاشناق للحزب يختلف عن مفهوم الأحزاب الأخرى، الأمر هنا يتعلق بشدّ أواصر المواطنين بدل تفريقهم وإيجاد قضايا مشتركة، وتوطيد علاقات بعضهم ببعض أكثر فأكثر.
يقول أحد المسؤولين الطاشناق إن الناجين من المجازر فتحوا المدارس أولاً، ثم الكنائس، فالنوادي ثالثاً. والنادي كان هو المستوصف والنادي الرياضي وقاعة الأعراس ومركز الكشافة وغيرها وغيرها، فيما كانت جمعية صليب إعانة الأرمن ــــ وما زالت ــــ تتمركز في النادي. ويشدد المصدر دائماً على الأهمية الاجتماعية للنادي، مؤكداً أن قوة حزبه تكمن في التعاضد الاجتماعي. فقد حافظ الطاشناق على نفوذه وقوته بحكم العلاقة شبه العائلية التي تجمع الأرمن بعضَهم ببعض. واللافت أن علاقة الجيل الجديد بهذه النوادي جيدة جداً، ويكفي دخول أي نادٍ في المتن أو الأشرفية لرؤية عشرات الشباب يسهرون هنا طوال الليل بدل التسكع في أحد الشوارع، الأمر الذي يسمح بمواصلة لمّ الشمل الأرمني، وتوطيد مختلف أشكال العلاقات بين الأجيال الأرمنية المختلفة. والغريب جداً في الموضوع أن تكلفة النادي لا تقارن بمصاريف الأحزاب الأخرى. لكن هذه الأحزاب لم تسعَ، لأسباب مجهولة، إلى استنساخ تجربة الطاشناق. ولا شك أن منظر بيوت الشعب وصخبها اليومي من الثامنة صباحاً حتى منتصف الليل، وطبيعة الحركة فيها تثير الشفقة الكبيرة على البيوت الحزبية الأخرى شبه المهجورة المحيطة بها. والواضح ختاماً أن الطاشناق نجح في إقناع الرأي العام الأرمني بأنه حزب غير الحزبيين، فيما تكتفي الأحزاب اللبنانية الأخرى بأن تكون أحزاب الحزبيين فقط بحيث تكون أنشطتها سياسية فقط ومدعووها من حملة البطاقات الحزبية فقط.