مآسي الناس في عيون الخضرجي والصندقجي واللحام وتاجر البالة
ليس تنظيراً ولا أرقاماً علمية مضخّمة وليس نقّاً أو مبالغة في الشكوى، بل أبعد من هذا كله، هو الواقع بتفاصيله الصغيرة الموجعة يعيشه اللبنانيون كلّ لحظة ويحفر في أعصابهم وصبرهم وقدرتهم على التحمّل. في الفرن، عند اللحام والخضرجي، على صندوق السوبرماركت، أمام محطة البنزين، في السرفيس وفي وفي وفي… يعيشون «أجحم» يومية وهي جمع لكلمة جحيم أشد حراً وعذاباً من الجحيم نفسه. صور لا تزال خفية على المسؤولين وعلى لبنانيين آخرين يروي لنا قتامة ألوانها من يتعاملون مع تفاصيلها اليومية.
روايات مؤلمة ونماذج لمواطنين لبنانيين منّا وحولنا، تبدّلت أحوالهم وما عاد ينفع معها سؤال «وينية الدولة» ولا تحذيرات بالوصول إلى «الجحيم والهاوية». هم في عمق الهاوية يتخبطون في كل تفاصيل حياتهم اليومية وليس من يشهد عذابهم بالعين المجرّدة. يسمعون عنهم لكنهم لا يرونهم، وربما يعدون لهم العصي لكنهم لا يأكلونها بدلاً منهم. وحدهم يعيشون مآسيهم اليومية وشهودهم عليها من يتعاملون معهم في تفاصيلها.
جمال سيدة تعمل على الصندوق في أحد الأفران الكبرى وتتعامل كل يوم مع عشرات الزبائن بعضهم عابرون وبعضهم زبائن دائمون تعرف عاداتهم ومشترياتهم ومشاكلهم الصحية. تقول «تريز لم تكن تشتري إلا ربطة الخبز الأسمر، مصابة بالسكري ونسيت على مرّ السنوات طعم الخبز الأبيض. حين رفع الدعم عن أصناف الخبز لم تعد تطلب الخبز الأسمر الذي بلغ سعر ربطته 27000 ليرة وعادت تشتري ربطة الخبز الأبيض الكبيرة المدعومة. «ما بقى من العمر أكثر مما مضى، نموت من السكري أحسن ما نموت من الجرصة والفقر». ومثل تريز كثر ما عادوا يطلبون الكعك ولا أصابع التمر أو المخبوزات البسيطة وهي أصناف كانت توازي الخبز مبيعاً…».
وداعاً للمنقوشة
ويروي لنا خضر وهو صاحب أحد الأفران في منطقة البحصاص الطرابلسية ويقسم بأولاده أن زبوناً ربّ عائلة سأله عن الخبز البائت، اليابس، عن الأرغفة المحروقة التي لا تصلح للبيع، الأرغفة القذرة التي تظهر فيها حشرات وأرجل صراصير، «عند الولاد كلو بيمشي، ما فيني اشتري ربطتين باليوم…» صارت الحشرات أرحم بالناس من المسؤولين الذين قطعوا عنهم الرزق والخبز…
سلام صاحبة فرن للمناقيش «زبوناتها على قدها» كما تقول، كثر منهم لم تعد ترى وجوههم منذ ارتفع سعر المنقوشة رغم أنهم جيرانها في الحي تعرفهم ويعرفونها. «الناس أوقفوا تناول المناقيش بعد أن كانت أكلة الجميع، وناس ما عادوا يأتون إلى الفرن مطلقاً. اليوم الكل يسأل عن السعر قبل أن يشتري، يسألون عن الزعتر والجبنة واللحمة ويشترون الأقل سعراً. الجبنة عندي من أفضل النوعيات لذا هي أغلى سعراً من سواي. دخل أحد الآباء ليشتري أربع مناقيش جبنة ذهل حين طلبت منه 240000 ليرة وارتبك وحين شرحت له أن النوعية تختلف عن الأفران المجاورة كان جوابه «الولاد بدن ياكلو جبنة شو فرقانه معهم النوعية، المهم ياكلوا…مش رح يموتوا من الجبنة الرخيصة» ولم أر وجهه منذ ذلك اليوم.
هيام سيدة بقاعية صاحبة متجر لبيع الألبسة المستعملة في منطقة متنية، ظنتها بداية مغامرة: فتح محل لبيع الألبسة المستعملة في منطقة أهلها لم يعتادوا يوماً هذا النوع من التجارة والاستهلاك وشوارعها تعجّ بالمحال الراقية. لكنها غامرت نظراً لوجود الكثير من العمال والعاملات الأجانب في المنطقة القريبة من منطقة صناعية، وأطلقت على متجرها اسم Outlet لتخفي واقعه. «لم أتوقع أن أرى سيدات المنطقة يدخلن المحل، أمهات مع أطفالهن، طالبات جامعيات، ونساء من كل الأعمار جنباً إلى جنب مع العاملات الأجنبيات… كلهن يطلبن الأسعار المنخفضة ولسان حالهن «وين كنا ووين صرنا». بتن يرضين، ليس بموديلات السنوات المنصرمة كما هي في الآوتلت، بل بملابس مستعملة يستوردها تجار على شكل بالات من أميركا ويوزعونها على السوق».
بالات بات لها أربابها، أشخاص كانوا في السابق يدخلون المحلات الشعبية في برج حمود والنبعة وبربور والنويري، لكن حتى الشعبي لم يعد في متناول يدهم. يروي جان وهو رجل خمسيني وأب لثلاثة أولاد كيف يذهب كل أسبوعين إلى مدينة طرابلس إلى ضفاف نهر أبو علي تحديداً، هناك أكبر تجمع للبالة والملابس والأحذية المستعملة. القطعة كانت بألف صارت بعشرة آلاف والأحذية يمكن أن يتراوح سعرها بين 30 و300000 ألف… لا يخجل جان من « البقبشة» في تلال الملبوسات والأحذية ليجد ما يناسب أولاده. يعرف مقاساتهم ولا يصطحبهم معه مطلقاً. «لا أريد لأولادي أن يعيشوا الذل ويشهدوا على ما وصلت إليه يقولها بحرقة… آخذ الملابس إلى البيت سراً، أغسلها، أعقمها، أكويها وأضعها في أكياس مرتبة. وأنظف الأحذية جيداً من الداخل والخارج، أرشّها بمعقّم وأتركها في الشمس، وأضعها في علب ليفرح بها الأولاد… أيام حولتنا إلى شحادين».
بنغلادش أحسن
عند نبريش المحطة يرى عبدالرحمن العجائب.هو العامل البنغلادشي الذي أمضى في لبنان أكثر من خمسة عشر عاماً متنقلاً بين محطات البنزين في مناطق مختلفة لا يصدق ما تراه عيناه. بلغة عربية شبه سليمة يتأسف «حرام لبنان، بنغلادش أحسن هلأ، ناس معتّر مسكين هون، ما في مصاري للبنزين» نستدرجه بأسئلتنا عن الزبائن وكيف يدفعون؟ «نسوان بفتشوا بالجزدان ساعة بعدين بيعطوني 200 أو 300 ألف فراطة وبدن بنزين. رجال كانوا يفولوا السيارات هلق بعبوا تنكة بس أو عشرة ليتر…».
أحداث كثيرة يرويها عبدالرحمن بلغته اللبنانية المكسّرة عن أشخاص تدمع أعينهم ويخفضون رؤوسهم حين يطلبون 5 ليترات من البنزين أو على قدر ما يملكون من مبلغ في جيوبهم.
إحدى الشابات وصلت إلى المحطة، أرادت تنكة بنزين وعند الدفع تفاجأت بالسعر، ارتبكت خافت وبكت، فهي لا تملك المبلغ، تدخّل صاحب المحطة هدّأها ووعدته بالقدوم لاحقاً لتسديد ما عليها…
هادي الذي يعمل على الصندوق في سوبرماركت معروف بأسعاره التوفيرية لم يعد يتفاجأ بما يراه رغم أن المشاهد لا تزال تؤثر به وتتركه محبطاً تعيساً. «أكثر من أن تحصى أعداد المرات التي يقوم فيها الزبائن بإخراج الأغراض من الأكياس وردّها بعد أن تطلع الفاتورة. يتوقعون دفع مبلغ معين فيتفاجأون بحصيلة أعلى، فيتركون في أكياسهم الضروري فقط ويرجعون الباقي. وأحيانا يحددون لي الأمر منذ البداية قائلين حين تصل الفاتورة إلى عتبة مئتي أو ثلاثمئة ألف أعلمنا بذلك، ولو تبقّت كدسة أغراض أمامهم. يتركونها جانباً ويأخذون على «قد ما معهم».
سيدات يسألن على الصندوق عن سعر كل غرض ليُرجعن أحياناً معظم ما اشترينه من أغراض ويعدن الكرة مع أصناف أقلّ سعراً. «صرنا نشهد بيع الأجبان «بالنصف وقية» أو 100 غرام وكذلك اللحوم وأصناف المرتديلا وهو أمر ما شهدناها سابقاً». قصص هادي لا تنتهي عن أشخاص يتلفّتون حولهم بخجل ليتأكدوا أن أحداً لا يراهم وهم يعدون الفراطة في جيوبهم حتى المعدنية منها لتجميع المبلغ. وعن سيدات محرجات يجدن في صفعة على كتف الولد أو «حلشة» في شعره الحل الأمثل تجاه إصراره على شراء الشوكولا في السوبرماركت أو البيبسي…
الخضرجي في السوبر ماركت يشهد على مآس يومية كما يقول «إحدى السيدات من زبائن السوبر ماركت تشتري 3 حبات بطاطا وبصلتين وحبتين من البندورة. وتغيب لأيام ثم تعود لتشتري الكمية ذاتها. زوجها ينال راتباً أسبوعياً فتستقطع كل أسبوع المبلغ الذي يمكنها من شراء ما تحتاجه لطبختين… واحدة أخرى أجمع لها الخضار المهترئة وأضعها جانباً. تحصل عليها مجاناً، تقص المهترئ منها توضبها وتأخذها إلى المنزل. لم تكن كذلك في السابق، معظم زبائننا من المنطقة كانوا ميسوري الأحوال، صار الكثيرون منهم فقراء ومحتاجين».
على باب أحد محال الخضار الرفيعة المستوى ركن مستحدث مخصص للبضائع التي صارت درجة ثالثة ورابعة. لم يكن موجوداً سابقاً في المحل الذي تقصده الطبقة الميسورة، لكنه بات حاجة بعد أن رأى صاحب المحل أن بضاعة الدرجة الأولى صارت مقتصرة على صنف معين من الزبائن وغاب الباقون.»مذ وضعنا هذا الركن خارجاً عاد الزبائن وصرنا نرى وجوهاً جديدة، يفتشون وسط الصناديق يختارون الخضار الذابلة وحبات الفاكهة الصغيرة الحجم يدفعون ويخرجون قانعين ببضاعة ما كانوا ليلتفتوا إليها سابقاً».
نحو الأرخص
وتكثر القصص أليمة محزنة. عند أحد محلات بيع الدجاج المعروفة زبائن يطلبون الرقاب والأرجل و»القوانص» وهي مقتطعات كانت تخصص سابقاً لإطعام الكلاب والقطط، يطهوها أصحابها ويقدمونها لحيواناتهم الأليفة اليوم صاروا يقدمونها لعائلاتهم. صورة قاسية جارحة لكنها حقيقة يرويها غسان لنا من موقعه خلف البراد. «إحدى الأمهات تطلب القوانص وأوراك الدجاج ولا شيء سواها وتخبره أنها تطحنها على ماكنة الفرم بعد أن تسلقها وتضيف إليها الثوم والقليل من البهارت والكعك المطحون وتحولها إلى قطع ناغتز تقليها وتطعمها للعائلة. تفضلها على الناغتز المجلد الذي لا تعرف مكوناته وسعرها أوفر». مثل هذه السيدة كثيرات من الأمهات صرن يتفنّننَ في تحويل غرامات اللحم أو الدجاج إلى طبخة متكاملة. يقول أشرف وهو عامل مصري في ملحمة «صرنا نرى مناظر ما كنا نراها في لبنان. ربما سابقاً في مصر لكن في لبنان أبداً… ناس يشترون «الجلاميق» وتخلط الدهنة أكثر من اللحمة في ما يشترونه، وبعضهم يأخذ العظام فقط بعد أن كان يرميها. وليس عظم الموزات الغني بل جوانح العظم الرقيقة التي تغطيها نثرات لحم».
نعم هذا هو واقع الكثير الكثير من اللبنانيين، لم يكونوا فقراء معوزين، وليسوا لاجئين أو مشردين هم مواطنون مستورون رمى بهم المسؤولون في لهيب الجحيم وأداروا وجوهم عنهم حتى لا يسمعوا عويلهم أو يروهم يذوون ويتلاشون في نار جحيهم اليومي.