نشرت صحيفة «أوبزرفر» البريطانيّة بعض ما توصّلت إليه «وثائق حكوميّة داخليّة» ذكرت أنّها «اطّلعت عليها». والنتائج مثيرة للرعب: ذاك أنّ تحرير مدينة الموصل العراقيّة من «داعش» قد يتسبّب بنزوح مليون إنسان إلى إقليم كردستان في الشمال، وهو ما يغدو محتّماً في ما لو طالت المعركة وتشعّبت. لكنّ الإقليم بالكاد يستطيع إعالة المليون ونصف المليون ممّن نزحوا أصلاً إليه، لا سيّما وهو يعاني أزمة اقتصاديّة نجمت عن انهيار السعر النفطيّ، مصحوبة بأكلاف الحرب مع «داعش»، فضلاً عن إعالة اللاجئين. وحتّى اليوم لم يتلقّ الإقليم إلاّ خُمس المعونات المطلوبة لأداء تلك المهمّة.
لا تقف المشاكل عند هذا الحدّ: فالأطراف الثلاثة التي تقاتل في الموصل، أي الجيش العراقيّ و»الحشد الشعبيّ» الشيعيّ والبيشمركة الكرديّة، ليست متّفقة إلاّ على أقلّ القليل. وإذا كان الحصول على معونة الحكومة العراقيّة شرطاً لتحسين قدرة الإقليم على مواجهة النزوحين، القائم والمحتمل، فهذه المعونة مستبعدة في ظلّ العلاقة المتردّية بين بغداد وأربيل. أمّا المناطق التي حرّرتها البيشمركة حتّى الآن، ومساحتها تقارب نصف مساحة الإقليم، فعلاقات سكّانها العرب والإيزيديّين مع الأكراد ليست على ما يرام. ثمّ أنّ سلطة أربيل بدورها ليست في أحسن أحوالها بفعل تنامي المعارضة لحاكمها مسعود بارزاني. فإذا أضفنا المليون نازح المحتملين بعد سقوط الموصل (وكان حيدر العبادي قد توقّعه هذا العام)، بات التصدّع الاجتماعيّ والاقتصاديّ يسابق ذاك السياسيّ والأمنيّ، خصوصاً أنّ نزع قبضة تنظيم «داعش» عن الموصل قد يرفع وتيرة نشاطه الانتقاميّ حيث يستطيع ذلك.
بلدان أخرى في المشرق العربيّ، لا سيّما الأردن ولبنان، تعيش أزمات من هذا الصنف، وإن لم تبلغ السويّة العراقيّة. فهنا أيضاً تتلاحق الفصول التي ترتّبت على المأساة السوريّة وعلى انهيار بلد لا يقلّ إلاّ قليلاً عن العراق، مصحوبة بالمشاعر العنصريّة حيال السوريّين.
وفي منطقة غير بعيدة عن المشرق العربيّ، تقدّم باكستان وأفغانستان لوحة أخرى: فمنذ 1979، تاريخ بدء «الجهاد الأفغانيّ» ضدّ السوفيات، بدأت موجة نزوح أفغانيّ عزّزته، فضلاً عن الحرب نفسها، عوامل أخرى: فقد تضافرت القرابة الإثنيّة البشتونيّة على جانبي الحدود، ويقظة الأيديولوجيا الإسلاميّة العابرة للحدود، وتورّط باكستان العميق في حرب أفغانستان وعلاقاتها الأمنيّة مع أطراف تلك الحرب.
لكنْ بعدما كان اللاجئ الأفغانيّ مرحّباً به، بدأت الأكثريّة الباكستانيّة، منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001، تنظر إليه بشيء من الريبة التي تصاعدت مع ظهور أطراف في «طالبان» تغلّب العداء لباكستان على كلّ اعتبار آخر، ثمّ مع حصول عدد من الأعمال الإرهابيّة التي شرعت تؤسّس لـ»أفغانو-فوبيا» (خُواف الأفغان) بين الباكستانيّين. وابتداء بأواخر العام الماضي، حزمت باكستان أمرها وقرّرت إعادة ثلاثة ملايين لاجئ أفغانيّ إلى بلادهم. بيد أنّ كثيرين من هؤلاء ولدوا في باكستان ولا يعرفون وطناً آخر، وكثيرين منهم أحرقت القرى التي فرّوا منها ولم تعد صالحة للسكن، وكثيرين آخرين لا يحتملون أكلاف العيش في المدن الأفغانيّة التي التهبت أسعارها بعد الإعلان عن إرجاع الأفغان المقيمين في باكستان إلى بلدهم الأصليّ. وإلى هذا، لم تتردّد المفوضيّة العليا للاجئين، التابعة للأمم المتّحدة، ولا حكومة باكستان، في مصارحة العالم بعدم الاستعداد لمواجهة قرار كبير كهذا.
وقبل هذا كلّه وبعده، في العراق وسوريّة، كما في باكستان وأفغانستان، آلام تقصف أعمار البشر وتقصف ذاكراتهم، وحقول للقتل توازي حقول الكراهيّة، وأوطان تضمحلّ ولا يتبقّى منها سوى المهامّ الإنسانيّة وبعض أرقام المنظّمات البيروقراطيّة التي تقدّم المساعدات.