IMLebanon

«تصوّر للعالم» يفصح عن نفسه في أوروبا عملية في إثر عملية  

هذا الكابوس العدمي المتسلسل، المتنقل، تحديداً في الآونة الأخيرة، بين مدائن أوروبا، إنّما يصدر عن «تصوّر للعالم» لا يمكنه أن يسقط على حضارة اسلامية كونية بأكملها بأي حال من الأحوال، وان كان تصوّر ينطلق من تراكم تناقضات وتقرّحات والتهابات وأورام ضمن هذه الدائرة. 

لكنه تصور لا يقتصر على تنظيم «داعش» وما يحاكيه من تشكيلات وشبكات هنا أو هناك. قوام هذا التصوّر الإعتقاد بأن هذا العالم الدنيوي هو شرّ بذاته، وأنّ الفرار منه بأسرع وسيلة هو أفضل وسيلة للتحرّر منه، وأنّ فرارك منه غانماً محمّلاً ينبغي أن يُقصد كغاية في ذاتها. 

هذا «التصوّر للعالم»، النافي له، الثائر عليه، المرعب بالقرعة، المستعجل حديث النهايات، المستعجل نهاية الزمن، لا يقتصر على «داعش» وحده. وان كان «داعش» بمثابة التكثيف الأكثر مشهدية، والأشد إيغالاً في «تطبيق أفلام الرّعب بخلفية تراثية». 

يبقى أنّه «تصوّر للعالم» يعكس أزمة عميقة يعيشها كوكب الأرض بعد نهاية الحرب الباردة، ونضوب الأيديولوجيات الخلاصية المتحدرة من العقلانية الغربية والمتمرّدة عليها في نفس الوقت. 

يضيّع باحثون وخبراء وقتهم ووقت الجميع في تكرار السرد الوصفي اياه عن «أيديولوجيا داعش»، وأيديولوجيا «الحركات الجهادية» بشكل عام، طالما ظلوا لاهين عن ملاحظة ومراقبة هذا «التصور للعالم» الذي يفصح عن نفسه عملية في إثر عملية، خصوصاً وأنّ هذه العمليات، الممهور أكثرها بتبني «داعش» أو تلك التي لم تجد من يتبناها، لا تصدر عن مركز عمليات واحد، ولم تعد تعرف نمطاً ارتكازياً واحداً لمنفذها، اذ سقطت الى غير رجعة المقاربة الميكانيكية البلدية حول «الراديكاليزيشن» التي تنظر الى عملية التطرّف أو التجذّر كرحلة إعداد وتربية وصقل تدرجية، وتنظر الى نقيضتها، «اخماد التطرف» أو «الديراديكاليزيشن» على أنها ثمرة تجميع «مؤثرات علاجية وتنويرية» لعلّ وعسى. هذه المقاربات التي احتلت شبكة العلوم السياسية وأصابتها بالتلف الشديد عند التطرق إلى أداء الحركات الجهادية انما دفنتها العمليات الاخيرة، يفترض ان يكون بشكل نهائي. هناك «تصور للعالم» يبدر عن شريحة من سكّان هذا العالم، وقوامه أن هذا العالم شرّ بذاته، ولا قابلية لإصلاحه جديّاً، وحتى «الدولة» التي يقيمها «داعش» ليست لإصلاح هذا العالم، من وجهة التنظيم ورؤاه، وإنما لدفعه للتفكك، وتأمين شروط نهاية الزمان، بالاتكاء على المخيلتين التراثية والسينمائية في نطاق ما هو متوفر لحركة تطرح نفسها في نهاية المطاف كاستمرارية لتقاليد السلفية الجهادية، مع تميز بإشهار الخلافة، بخلاف «اضطراب» الحركة السلفية الجهادية السابقة على «داعش» في هذا المجال، وتميز بإعطاء هذه «الخلافة» مضموناً مهدويّاً، في واحدة من مفارقات «وحدة الأضداد وتصارعها» على أرض العراق. 

مضيعة للوقت كل تحليل وموقف حول «داعش» وكل عمل ضد «داعش» لا يكون محوره هذا «التصور للعالم»، وهو تصور يمكن ان يستمر «بعد داعش»، ويمكن ان يقتبسه البعض جزئياً وموضعياً في مسائل دون مسائل، أو من دون الزخم الذي أتيح لـ «داعش»، تحديداً في ظروف كبوة الربيع العربي، وتزايد الطابع التناحري للحرب الأهلية المتداخلة في العراق وسوريا، ثم ازدهار براعة «داعش» في حروب الصحراء، وبراعته في اللعب على تناقضات أخصامه وكل من حوله، في مقابل كارثية «الحرب اللاجوية» الأوبامية الطراز على التنظيم، التي نقلته من حال جماعة «زرقاوية» لاهية بما تدمّره في نطاق تواجدها عن العالم «الخارجي»، الى جماعة فاقت تنظيم «القاعدة» الأساسي في عولمة أذرعها وزعانفها، خصوصاً في أوروبا.