بمقدار ما ترغب غالبية سياسية في لبنان في مصالحة مسيحية تنهي العداء التاريخي بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، وهو عداء أنهك المسيحيين سياسيا واقتصاديا وعلى كل المستويات طيلة 30 عاما، فإن النظرة الى المصالحة التي جرت اخيرا بين الطرفين لم تخل من ريبة كبيرة، ولو ان احدا لن يكون ضد هذه المصالحة او يرفضها. والريبة مردها الى أن هذه المصالحة، على اهميتها، تأتي على خلفية أسباب خاطئة، غير منطلقة من رؤية قلقة للوضع المسيحي في لبنان والمنطقة. لكن ذلك لا يمنع من التعامل مع نتائجها على أساس أمر واقع فرضته حسابات الطرفين ومصالحهما على الآخرين، بالاستناد الى أسباب مبررة في رأي محايدين داعمين، تكمن في عدم قدرة الفريقين المسيحيين على أن يكونا ملحقين بحسابات حلفائهما المسلمين في هذا الاتجاه او ذاك، وان في تحالفهما شيئا من انتفاضة لكرامة كل منهما في وجه هؤلاء الحلفاء.
مع مسارعة رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير جبران باسيل الى لقاء الرئيس نبيه بري والحلفاء، بات 8 شباط، موعد الجلسة المقبلة لانتخاب رئيس للجمهورية، يشكل تحديا كبيرا من أجل تفعيل الزخم الذي اطلقه ترشيح جعجع لعون. ومن المهم ان يتم العمل على اقناع الافرقاء الاخرين، وفق مصلحة “التيار الوطني”، انطلاقا من معلومات عن ان المهلة ليست مفتوحة امام خطوة جعجع، وان امامها، أقله وفق هذه المعلومات مهلة شهر من أجل إنجاحها تحت وطأة احتمال بروز تطورات تؤدي الى ذهاب عون وجعجع الى خيار ثالث، اي ما يقضي بالاتفاق في ما بينهما على اسم شخصية يتوافقان عليها للرئاسة الاولى. والمهلة الطويلة، في حال استغرقتها المبادرة الجديدة، ستكون مقبرة لها في نهاية الامر، مع تأجيل غير محدد للرئاسة الاولى سيتحمله الطرفان المسيحيان المعنيان اللذان لم يتفقا منذ أكثر من سنة ونصف سنة على خيارهما الحالي، وهما أضافا الى تعقيدات الملف الرئاسي تعقيدات أخرى من خلال دعم جعجع لعون نتيجة حسابات ومصالح لا تتصل بالوحدة المسيحية او بالحسابات الوطنية.
يتفق سياسيون كثر على ان جعجع ربح أيا تكن نتائج خطوته، ولعل الرابح الأكبر في موازاة المكاسب التي حققها هو “حزب الله”، اولا من ترشيح قوى 14 آذار، متفقة او مختلفة، مرشحين مسيحيين محسوبين عليه، ثم تبني جعجع ترشيح عون، اي المرشح الاساسي للحزب. فجعجع يمكن ان يربح في حال وصول عون الى الرئاسة وفي حال إقناع الحزب كلا من الرئيس بري والنائب وليد جنبلاط بدعم وصول عون، واضعا الرئيس سعد الحريري في وضع صعب، كما سيربح من اتفاقه مع عون في حصر المقاعد المسيحية النيابية بينه وبين “التيار الوطني”، وسيربح مسيحيا في حال عدم وصول عون والذهاب الى مرشح ثالث، ضامنا لنفسه موقعا كركن اساسي لا يمكن تجاوزه في المعادلة الداخلية. لكن الحزب لا تقل مكاسبه عن مكاسب جعجع، اذ سيربح من وصول مرشحه ومن استدراج جعجع الى محوره في المقابل. والخطوة الثانية على الارجح لـ”التيار الوطني” هي محاولة التقريب بين حليفه الشيعي وجعجع، على نحو قد يجد الحزب مصلحة كبيرة في انتزاع ورقة طرف مسيحي كان حتى اليوم محسوبا على محور الدول الخليجية، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية. ومعلوم أن هذا الامر قد يلعب على نحو مختلف من خلال سعي هذا المحور الى عدم خسارة هذا الطرف ومحاولة استيعابه. وسيكون من مصلحة “التيار الوطني” ألا يبقى حليفه المسيحي الجديد مكشوف الظهر، من دون حماية اقليمية، إذا كانت خطوته من دون غطاء او موافقة اقليمية او دولية.
ومع أن الحسابات الداخلية ليست وحدها المقررة في الانتخابات الرئاسية، فإن إنجاحها من خلال الإجماع الذي تحدث عنه عون يفترض ان يسحب ورقة حسمها من يد جعجع الى يد الحزب الذي لا يستبعد ان يضع شروطه من أجل السير حتى بمرشحه متى كانت التسوية بين عون وجعجع تتضمن شروطا معينة. وسيتعين على عون أن يتوجه للحريري بأن ثمة موافقة مسيحية كبيرة عليه وان تكن غير مكتملة كليا، لكنها تحظى بدعم بكركي و”القوات” وهو الشرط الذي رفعه الحريري قبل سنة ونصف سنة حين رفض جعجع الحوار بين الحريري وعون من أجل ترجيح وصول الاخير. واذا كان عون سيضمن في المقابل عودة الحريري رئيسا للوزراء، فإن ثمة شروطا للحزب قد تبدأ بقانون الانتخاب وصولا الى ضرورة التخلي عن المحكمة الدولية، والتي على رغم إظهار الحزب لامبالاة حيالها، ينسحب عليها ما سرى بالنسبة الى لامبالاة السيد حسن نصرالله بالعقوبات الاخيرة التي فرضها الكونغرس على الحزب، فيما تحرك رئيس مجلس النواب طالبا تحريك اكثر من قناة اتصال لرفع الضرر بعد هذا القرار. والواقع أن كثرا يرون أن الحزب، إذا شك في نيات جعجع ولم يرغب في التسليم له بمكاسبه، قد يوازن بين ان يكسب التحالف المسيحي الجديد الذي قد يرى فيه خطورة على حصته النيابية وحصصه الباقية، وأن يجري مصالحة محتملة مع الطرف السني المؤثر في البلد. وهذه الحسابات لا تصب وفق المتابعين انفسهم في مصلحة التحالف المسيحي. وثمة سياسيون كثر ليسوا متفائلين بأن الامور ستسهل، بل على العكس.