IMLebanon

الاحتفالية الدائمة «لبنان الكبير» وأزمة المصير

هوس يتشارك به اللبنانيون، ازداد حدة في السنوات الأخيرة، عنوانه الاحتفالية الدائمة. «ديارنا عامرة» بمهرجانات الغناء وملكات الجمال، الى أن جاء أخيراً دور «لبنان الكبير» باحتفالية استباقية بدأت قبل ذكرى ميلاده بأربع سنوات. الاحتفالية لصيقة بالوجاهة والظهور الإعلامي، ولها رواد ومروّجون، ولا تترك أثراً أو ضرراً.

للاحتفالية هذه المرة قيمة مضافة، فالمناسبة مرتبطة بنشوء الدولة: «لبنان الكبير»، الذي أعلنه الجنرال غورو في أول أيلول 1920، جاء تتويجاً لحراك سياسي ومسار تاريخي بدأ قبل المتصرفية التي نالت اعتراف الدول الكبرى في العام 1861، وتثبّت بعدها فكانت المتصرفية النواة الجغرافية والقانونية والسياسية للدولة الناشئة، بعدما أُلحقت بها المقاطعات العثمانية ومعظمها ارتبط تاريخياً بحقبة الإمارة المعنية. دولة «لبنان الكبير»، شأنها شأن دول الجوار العربي، ومنها سوريا والأردن والعراق، نشأت بدعم بريطاني أو فرنسي وفي ظروف خاصة بكل دولة.

لاقى «لبنان الكبير» معارضة شديدة في المناطق التي ضُمّت إليه لأسباب متنوعة، سياسية ودينية وأيديولوجية وإدارية، تراجعت حدّتها بعد الاستقلال في العام 1943 مع اعتماد مخرج ملائم حصر عروبة لبنان بـ «الوجه». هذا الغموض البنّاء سرعان ما سقط حجابه فبَان الوجه المتنازَع عليه في لبنان والعالم العربي مع بروز تيار سياسي وشعبي جارف بقيادة رئيس مصر وزعيم العرب جمال عبد الناصر. عروبة «ميسلون» في العام 1920 هي غير عروبة «العدوان الثلاثي» في العام 1956، وتختلف عن عروبة ما بعد حرب العام 1967. ولكل حقبة خصوصيتها وتداعياتها داخل لبنان وفي المنطقة. وجاء قيام الكيان الإسرائيلي في العام 1948 واحتلاله كامل فلسطين في العام 1967 ليزيد الأوضاع تعقيداً على الأصعدة كافة.

عشية اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975، لم يعد لبنان ـ كبيراً كان بعين مريديه أم صغيرا ـ يتّسع لطموحات أهله في التطوير والتغيير، وصولاً إلى حدّ الثورة. ولم تعد الصراعات التقليدية تكفي اللبنانيين والوافدين إليه قسراً أو طوعاً، فانقضّوا على بعضهم البعض وسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

جاء اتفاق الطائف محاولة لاسترجاع بعض مقوّمات الدولة في لحظة إقليمية ودولية مؤاتية للنافذين من أهل الحلّ والربط في الداخل والخارج. وُوجه الطائف بمعارضة معلنة، خصوصاً في الوسط المسيحي، ومعارضة مكتومة من بعض الأطراف المتنازعة. بعد انتهاء الحرب، استعاد لبنان وحدته الجغرافية في دولة لا تملك القرار في المسائل الأساسية، مثلما كانت عليه الحال في عهد الانتداب في المرحلة التي تلت مباشرة قيام «لبنان الكبير».

بعد العام 2005 عاد لبنان إلى تجاذبات حادة في ظل أوضاع إقليمية شديدة التوتر والانقسام، خصوصاً منذ العام 2011، وبلا رعاية دولية هذه المرة، خلافاً لما كان يحصل في الماضي. الجماعات اللبنانية حريصة اليوم على لبنان، بمعزل عن حجمه الجغرافي ودوره وهو يخدم مصالحها، إلا أنها مختلفة حول ما تريد من لبنان.

في مرحلة سابقة، معادلة «النفي المزدوج» أعطت بعض الحماية للصيغة الملتبسة. أما اليوم فالأوضاع تبدّلت على رغم أن عدداً من المسائل الخلافية التي فرّقت اللبنانيين في الماضي لم تعد قائمة، منها الموقف من الكيان الإسرائيلي، في زمن الحرب تحديداً. الخلاف الداخلي في الشأن الخارجي يرتبط حالياً بالمحاور الإقليمية، لا سيما مآل النزاع في سوريا. وفي الداخل الأولويات تتجاوز المسائل المتصلة بالكيان والهوية، وهي الآن من الثوابت الدستورية، وإن لم تكن نهائية بنظر البعض. التباينات الراهنة محورها السلطة وطريقة إدارتها في عدد من المسائل الخلافية المرتبطة بشؤون الحكم.

سياسة المحاور الإقليمية التي طبعت الواقع العربي طيلة نصف قرن تحولت أخيراً باتجاه محاور جديدة: سعودية ـ إيرانية أو تركية ـ عربية. هكذا حلّ اتفاق فيينا حول إيران النووية مكان حلف بغداد ومبدأ ايزنهاور. الفارق كبير بين حقبة القومية العربية والقضية الفلسطينية التي كانت ملازمة لاهتمامات الدول والمجتمعات، والشروخات الدينية والمذهبية التي تعصف اليوم بالعالم العربي والإسلامي.

عندما نشأ «لبنان الكبير» واستمر بعد الاستقلال كانت الهموم العربية متشابهة و «العدو المشترك» كان جامعاً، يمكن تحميله مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع العامة. أما اليوم فَمَنِ المسؤول عن التطرف والعنف المستشريين في المنطقة؟ الكيان الإسرائيلي متفرغٌ للاحتلال والاستعمار التقليدي ولّى زمنه.

المفارقة أن يكون «لبنان الكبير»، الهشّ التكوين، ملاذا للنازحين من أتون الحرب السورية، وأن تصبح حدود دول الجوار المعسكرة جبهات قتال بعد نحو قرن على ترسيمها. هكذا يصبح «لبنان الكبير» حاجة لأهله ولغيرهم، بينما «احتفالية» القتل الجماعي متواصلة في دول أوجدها الاستعمار وأجهز عليها أهل الدار. إنها أزمة مصير تصيب الجغرافيا والتاريخ في «لبنان الكبير» و «سوريا الكبرى» والوطن العربي الأكبر.